شق الثعبان..المكان الذي يقتل أحلام الأطفال ويحولهم إلى عمال

 

وقف عبد الله (9 أعوام) ممسكاً بلوح رخامي يزيل الألوان الزائدة عن النقوش بمقشطة حديدية تمهيداً لتعلمه في الأيام القادمة استعمال “الصاروخ” داخل ورشة تتوسط منطقة شق الثعبان، واحدة من أكبر مناطق صناعة الرخام في مصر، بل في العالم.

منذ سنوات، كان يمسك بقلمه وكتابه في مدرسته الابتدائية بدلاً من قطع الرخام والصاروخ الذي يُستخدم لقصه، ولكن ضيق حال أسرته دفعه لترك الدراسة دون رجعة و للعمل في سن مبكرة، لكي يساعد والده ويساهم في توفير قوت يومه وأهله.

_D8_B9_D8_A8_D8_AF__D8_A7_D9_84_D9_84_D9_87_(2) عبدالله يعمل في الورشة

يقول أنه كان يحلم بأن يصبح طبيباً بعد التخرج من الجامعة، إلا أن أحلام الصغير ذهبت أدراج الرياح. فإكمال تعليمه كان سيكلف أسرته للكثير من الأموال في ظل دخلها المحدود، أو قُل “المعدوم”.

يعمل عدد كبير من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 12 عاماً في أحد أخطر مناطق مصر، شق الثعبان. يقفون خلف آلات التقطيع والرافعات، يحملون الرخام الثقيل ويمارسون أعمالاً تستلزم قدراً كبيراً من الحيطة والحذر.

عبد_الله_(3)_مصطفى-عيد

مائة وخمسون جنيهاً (حوالي 8 دولارات) هو مقدار ما يجنيه عبد الله أسبوعياً، من عمل يبدأ من الثامنة صباحاً ويستمر لمدة 12 ساعة.

يقول عبد الله مبيّناً مدى الإرهاق الذي يتعرض له يومياً: “نفسي أبطل شغل وأقعد في مكتب وأرتاح”. لكن عمله لا يعرف الراحة، فتجبره خطورته على الانتباه والتركيز كي لا تُبتر أنامله أو يده بسبب إحدى الآلات إن تَشتت تفكيره.

وكم سقطت على يديه ألواح وقطع من الرخام مسببة له الجروح، فينتظر التآمها كي يعاود العمل من جديد، إلا أن التشقق والخشونة لم يفارقا يديه.

عبد الله يد عبدالله، بعدسة مصطفى عيد

مياه الشرب التي تمتلئ بالطحالب

لعل حسين (7أعوام) أصغر وأحدث المنضمين للعمل في المنطقة،  إذ يلازم أحد العاملين الكبار بجوار آلة كبيرة، بها قرص دائري بحجم إطار سيارة، حيث يشرف على عملية إنزال قطع الرخام بأمر من العامل.

_D8_AD_D8_B3_D9_8A_D9_861 حسين في الورشة

يقضي 10 ساعات عمل يومياً واقفاً وسط ورشة مغلقة، يسترق دقائق قليلة لاستنشاق هواء نظيف.

يتناول وجبة غذائه وسط النهار، مغتنماً وقت الراحة القصير، ولكنه يواجه المشكلة المزمنة في مياه الشرب التي تمتلئ بالطحالب والصدأ، والتي تُنقل إليهم في حاويات سيارات النقل.

أمكنة الطعام غير صالحة للاستخدام البشري، وكذلك الوجبات التي يتم توفيرها من خارج المنطقة.

تتفشى الأمراض كالمغص المعوي والفشل الكلوي بسبب تلوث الغذاء ومياه الشرب، فضلاً عن التينيا الناتجة عن ارتفاع درجة الحرارة وندرة المياه المستخدمة في النظافة الشخصية‏.

ويعاني الجميع من أمراض الصدر بسبب الغبار الناتج عن عملية نشر وتقطيع الرخام، حيث يكسو الغبار كل شيء ممهداً لانتشار أمراض الربو والحساسية.

كما تنتشر الإصابات بالكسور والجروح المختلفة ‏والبتر وحصوات الكلى والنزلات المعوية، نتيجة الارتطام المتكرر أثناء حمل الرخام الثقيل والعمل على آلات التقطيع، واستخدام حمض الكبريتيك المركز أو ما يُعرف بماء النار في تلميع الرخام عند آخر مراحل تصنيعه.

يسكب حمض الكبريتيك من مسافة قريبة، فيستنشق الغازات الضارة وقد تسبب ملامسته للجلد الاحتراق أحياناً.

لكنه وباقي الأطفال يتحملون كل هذه الظروف ويُعتمد عليهم فيها، بسبب كثرة عددهم وتدني ما يحصلون عليه من أجر مقارنةً مع العمال الكبار.

حال أكثر من مليون طفل في مصر

تنص المادة (80) من الدستور المصري أن الطفل هو من لا يتجاوز سن ال18 عاماً، كما تنص المادة 65 مكرر من قانون الطفل المصري على منع تشغيله في الأعمال التي تعرضه للخطر ما لم يتجاوز سن إتمام التعليم الأساسي، وتمنع تعرضه لأي أضرار أو آلام نفسية أو جسدية أو حرمانه من فرصة الانتظام في التعليم.

كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2011، بحسب صحيفة المصري اليوم، أن إجمالي عدد الأطفال العاملين في مصر يصل إلى مليون و594 ألف طفل، تتراوح فئتهم العمرية بين 5 و17 عاماً، و تصل نسبة الإناث إلى 21٪ مقابل 79٪ للذكور.

وأعلنت منظمة العمل الدولية أن حجم عمالة الأطفال في مصر عام 2016 يبلغ نحو 2.2 مليون طفل، بحسب صحيفة الأهرام الحكومية، بنسبة تصل إلى 26%، ووفقاً لدراسة أخرى لمركز الطفل العامل، فإن عددهم يبلغ نحو 3 ملايين يمثلون ثلث الشريحة العمرية الموجودة في التعليم الأساسي.

وارتفعت معدلات انتهاك حقوق الطفل للمرة الأولى لتصل لأقصى معدل لها خلال شهر يوليو 2016 إلى 496 حالة، منها 267 قضية تم تداولها إعلامياً. ووفقاً لليونيسيف، فإن عدد الأطفال العاملين في مصر 2.7 مليون طفل، تتراوح أعمارهم بين 6 سنوات و14 سنة، تركوا الدراسة والتحقوا بالعمل بسبب الفقر أو بسبب ظروف أخرى.

يقول أحد كبار العاملين القدماء وأصحاب الورشات في شق الثعبان أن عدد المصانع في المنطقة يقدر بـ900 مصنعاً، منها 50 فقط حاصلة على تراخيص والباقي غير قانوني.

يقول الأطفال أنه حينما تأتي الحملات الإدارية للتفتيش، يلجأ أصحاب المصانع لإخفائهم أو إعطائهم إجازة، ليعودوا بمجرد مرور الحملات بسلام.

ما الذي تفعله الحكومة؟

يقول أحمد مصيلحي، رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال بنقابة المحامين إن ظاهرة عمالة الأطفال في مصر بشكل عام، وفي منطقة شق الثعبان بشكل خاص، تنتشر “بشكل مرعب”، خاصة بعد ثورة يناير. ويشير إلى أن إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، غير دقيقة ومتضاربة وقائمة على أسس غير علمية.

يصرح المجلس القومي للأمومة والطفولة ووزارة القوى العاملة، والتضامن الاجتماعي أن الظاهرة كانت متفاقمة بعد الثورة بمعدل 1.8 مليون طفل عامل عام 2010، ولكنها تراجعت بعد سنوات قليلة لتقارب المليون طفلا فقط.

لكن مصيلحي يقول لرصيف22 أن نسبة عمالة الأطفال في المناطق الجبلية تزداد بنسبة 100% سنوياً، وذلك لرخص أجورهم، واحتياج أهلهم للمال إذ يعيشون تحت خط الفقر، وسهولة توظيفهم في ظل غياب الرقابة والأجهزة المختصة.

كما أن المجلس القومي للأمومة والطفولة لا يقوم بدور حازم للحد من تلك الظاهرة، ما يضطر مصيلحي للعمل على تقديم بلاغات للجهات المختصة إلا أن التحرك بطيء.

ويقول أن الإحصاءات تظهر أن هناك طفلاً يموت كل يوم بمنطقة شق الثعبان نتيجة الارتطام أو سقوط الصخور عليه. وهو ينبه أن وزارة القوى العاملة لا تعمل على تحرير المحاضر للمخالفين بالرغم من أن لها حق الضابطة القضائية.

عالمياً، تعتبر منظمة العمل الدولية العمل في مناطق المحاجر من أسوأ أشكال العمالة، وهي محظورة على الأطفال، وقد تصل العقوبة في استغلال الأطفال في مثل هذه الأعمال للسجن المؤبد كونها جناية.

جرح في الذراع، والعمل يستمر

في ورشة أخرى، كان فهمي (11 عاماً) ممسكاً بالصاروخ لتلميع قطعة رخام، وسرعان ما تبدل لون بشرته القمحي إلى الأبيض بسبب الغبار الناتج عن عمله والذي يملئ المكان كله..

فهمي_(1)_مصطفى-عيد فهمي في عملهبدأ عمله منذ سنوات بعدما ترك المدرسة وحلم لعب كرة القدم وراء ظهره، ليحمل مسئولية تجهيز أخته العروس، ومساعدة والده في تدبير احتياجات الأسرة.

يقول إنه يقاوم الغبار بشرب اللبن والعسل يومياً، ولكنها تكلفه الكثير وتحتاج لميزانية أخرى، فيضطر إلى توفير سعرها والاعتماد على ما تبقى من صحة، أو كما يقول “بنسيبها على الله”.

منذ عدة أشهر تعرض لجرح في ذراعه بفعل آلة لتقطيع الرخام يعمل عليها، ظل نحو 3 ساعات ينزف لعدم تواجد أي وسيلة للإسعافات، أو أي مستشفى قريب، أو حتى صيدلية.

كان أقرب مكان لهم مستوصفًا طبيًا بدائيًا يبعد عنهم مسافة بضع الكيلومترات من منطقتهم الجبلية. استطاعوا هناك مداواة جرحه، ومن ثم عاد إلى العمل.

 

 

 

 

رصيف 22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى