تفاصيل صغيرة لكنها قاتلة .. عبدالكافي عرابي النجار

ما يظنه المرء تفاصيل صغيرة في الحياة العادية قد ينقلب إلى ضروريات تتأرجح الحياة بفقدها بين وجود وعدم. يقول نزار قباني: شؤون صغيرة.. تمر بها أنت.. دون التفات.. تساوي لدي حياتي.. جميع حياتي.  

لمُقَلِّمة الأظافر شأن وأيّ شأن في سجون عصابات الأسد، فقد كان الحصول عليها يتطلب استجداء الجلادين لعدة أيام، حيث يقوم شاويش المهجع بطلبها من الجلاد المناوب، ثمّ تمر الأيام فيعود الشاويش لطلبها من جلاد مناوب غيره، وهكذا يستمر مسلسل طلب مُقَلِّمة الأظافر، حيث يستعذب الجلادون إذلال المعتقلين وابتزازهم في صغير الأمور وكبيرها.

يستلم شاويش المهجع مُقَلِّمة الأظافر على مسؤوليته الشخصية وقد نُزع منها كلّ ما ليس له علاقة بتقليم الأظافر، ويحدد له وقت معلوم أربع ساعات أو خمس ساعات لأعادتها، ليبدأ السباق مع الزمن فالمهجع فيه حوالي 120 معتقلاً وينبغي أن يقلّم الجميع أظافرهم ضمن الوقت المحدد.

كان لليوم الذي تصل فيه مقلمة الأظافر إلى المهجع يوماً احتفالياً خاصّاً، تكثر فيه الخصومات والمشادّات، وتتنقّل المقلمة بين الأيدي معزّزة مكرمّة، والكل يريد الحصول عليها قبل غيره، خشية أن يطلبها الجلاد فجأة، وتبقى أظافر بعضهم بلا تقليم.

ما لا يدركه من لم يعش تلك الظروف أنّ المعتقل لا يمكنه الاستغناء عنها، لأنّ أظافره إن طالت وهو مضطر لحكّ جسده من قَرْصِ القمل والحشرات المرافقة له وما أكثرها، وقد تمر عليه شهور لا يلامس جسده فيها ماء ولا صابون ولا منظفات، وقليل من يصبر على عدم الحكّ، ولو صبر ستأتيه العدوى من جاره، فإن حكّ المعتقل جسده بأظافر طويلة تقرّح مكان الحكّ، وصار وذمة، فإن استمر في الحك انتشرت الوذمات في كلّ جسده، ممّا يشكل خطراً على حياته، حيث لا علاج ولا مضادات حيوية.

ينتشر القمل والحشرات المرافقة له في جسم المعتقل بعد حوالي خمسة أو ستة أيّام من دخوله المعتقل، ويبدأ بحك جسده، وتبدأ المهمّة الأكثر إلحاحاً بالنسبة له، وهي مهمة تشغل أيامه ولياليه وتستوعب أكثر وقته ألا وهي تفلية القمل من جسمه وثيابه، حتى تمرّ عليه لحظات ينسى فيها آلام الاعتقال والتعذيب أمام هذا العدو الذي لا يكلّ ولا يمل، ولعلّ الأمر مقصود بحيث ينشغل تفكير المعتقل وينحصر بالحرب الوجودية مع هذا المخلوق الطفيلي الذي لا يكتفي بمشاركته ثيابه وجسمه ودمه، بل يعلن الحرب عليه من طرف واحد فلا يترك لحظة إلا ويغرز فيها سهماً من سهامه في هذا الجسد المتقرّح أصلاً من تعذيب سجانه.

يا لضعف الإنسان؟! حشرة صغيرة كهذه تقلب حياته جحيماً، هذا الإنسان الذي يبدو للوهلة الأولى قوياً مخيفاً، الأيام وتغيّر الظروف وحدها تكشف له حقيقة ضعفه مهما ادّعى القوة.

في الليل يتجمّع المعتقلون تحت الضوء الخافت للمصباحين الكهربائيّين، حيث لا ينتهي العمل الأساسيّ في تنظيف الثياب من القمل لا ليلاً ولا نهاراً، يأخذون وعاء قذراً من أوعية الماء الكثيرة الموجودة قرب الحمام، ويضعون فيه قليلاً من الماء ويتجمّعون حوله، بحيث يلتقط المعتقل القمل من جسده وثيابه، ويضعه في الوعاء، ثمّ يراق الماء بعد ذلك في جورة الصرف الصحيّ.

عندما سألت: لمَ يفعلون ذلك؟! أخبروني أنّ القمل عندما يتمّ قتله بالأظافر فإنّ بيوضه تبقى ويزداد انتشاره، فقتله غرقاً يخفف من انتشاره.

لكنّ الظاهر أنّ المعتقلين لم يلتزموا بهذه القاعدة دائماً، فأنت لا تجد قطعة صغيرة من الجدار وعلى ارتفاع حوالي متر إلا مملوءة بدماء القمل، وهذا يدل على أنّهم استخدموا الطريقة التقليدية للتخلص من القمل، وهي هرسه بين أظافر إبهامي أيديهم ومسح الإبهامين بالجدار. ربّما أرادوا أن يتركوا شاهداً لأنفسهم يعزيهم في محنتهم ويذكّرهم بأنّهم استردوا بعض دمائهم التي اغتصبها القمل منهم.

ترسم بقع الدم الصغيرة المتلاصقة على الجدار لوحات سريالية يستطيع المرء أن يتأمل فيها ويتخيل ما يشاء من صور وأشكال مبهجة ومحزنة.

كنتُ استمتع بمتابعة القمل يسبح في الوعاء حتّى يموت، يا له من انتقام من عدو لم يترك لنا فرصة لنشفق عليه، رأيت أشكالاً كثيرة من الحشرات التي تنتشر على جسم الإنسان وثيابه، كنت أراها أوّل مرّة في حياتي، أضيفت أشكالها إلى قاموسي المعرفي، رأيت صور بعضها يوماً ما في الكتب المدرسيّة، وها هي الآن أمامي حاضرة بشخوصها.

في بداية الأمر كانت مصيبتي مضاعفة بالنسبة لرفاق الزنزانة، لأنّني لا أستطيع رؤية القمل من دون نظّارة، وقد سلبوني إيّاها مع باقي حاجاتي الشخصية عند اعتقالي، وهي الآن موجودة في الأمانات، وقد سألتهم واستعطفتهم مرات ومرات أن يعيدوها لي، فما زادهم سؤالي واستعطافي إلا تعنتاً، وبعد تكرار المحاولة والتعرض لأذى السبّ والشتم من مساعد الطبيّة أعاد لي نظّارتي مع وصيّة خاصة تضمنت تهديداً صريحاً بألا أخبر أحداً، ويا له من يوم فرح عظيم.

ولكنّ الفرحة أبت أن تدوم طويلاً، فقد حدث ما لم يكن في الحسبان، فعند وصولنا إلى سجن القابون العسكريّ حيث بتنا ليلتين هما أشبه بليالي الجحيم، لا أدري كم كان عدد المعتقلين في الزنزانة، ولكننا جلسنا فوق بعضنا بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فلم أشعر إلا والنظّارة قد صارت شطرين لتعيد لي تفاصيل معاناتي من جديد.

ربما يشعر المرء بالاشمئزاز عند قراءته بعض ما سبق، ولكن ما ينبغي أن يغيب عن ذهن أحد أبداً أنّ هذه حقيقة ما زال عشرات الألوف من السوريين يعيشونها بانتظار فرج قادم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى