راشد عيسى
حالُ فرنسا يصعب على الكافر فعلاً. بلد في مواجهة مئة أزمة وأزمة، تجده مشغولاً باختراع مزيد من المتاهات. وعلى سبيل المثال؛ انظر المحنة التاريخية التي تتعرض لها فرنسا في أفريقيا مع تتالي الانقلابات العسكرية، وقبل ذلك مع الغزو الروسي لأوكرانيا المستمر بتأثيره المباشر على يوميات المواطن الفرنسي، فليس زمن الوفرة وحده ما انتهى، بل إن اللقمة نفسها، والهواء، ولمبات الكهرباء باتت مهددة بالاضمحلال.
فما بال هذا البلد يترك مختلف الشؤون الملحة ليعمل أقرب ما يكون إلى مصمم أزياء حصري لما يرى فيه رموزاً إسلامية. فبعد الحجاب، والبوركيني، ها قد وصل أخيراً إلى العباءة. فقد فرضت فرنسا حظراً على ارتداء الفتيات لـ «العباءات الإسلامية» في المدارس الحكومية، ونحسب أنها، في التفاصيل، ورطة حكومية مستجدة، إذ كيف سيتحدد تعريف العباءة، فإذا كان من السهل تعريف الحجاب، والبوركيني (على الأقل بإمكانك تمييز ما ليس بيكّيني)، فكيف، ومن سيعرّف لنا العباءة!
هل يكفي القول إنها «ثوب كامل طويل ترتديه النساء بشكل تقليدي في البلدان الإسلامية»؟! وهل نتوقع هيئة فرنسية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدور وتنقّب عن (وفي) الثياب؟
من الممتع تخيّل إنشاء مؤسسة فرنسية ضخمة للفتاوى بهذا الخصوص للنظر في التحايلات المتوقعة على شكل العباءة التقليدية السوداء (إن اعتبرنا أن هناك شكلاً محدداً سلفاً)، بتلوينها أحياناً، أو بإضافة تفصيلات طفيفة تحيّر عين المطوّع الفرنسي.
لن ينتهي هذا المسلسل، الموجَّه حصراً للأقلية المسلمة في البلاد، على ما يبدو، فلربما كان أَوْلى من العباءة، بحسب منطق وزير التعليم الفرنسي غابرييل أتال، التنقيب في اللحى والشوارب، التي يمكن أن تحيل صراحة، وأكثر من العباءة، إلى صورة من صور التدين (حفّوا الشاربَ وعُفّوا عن اللحى)، إذا فكرنا قليلاً بالأمر سنجد أن مسلسلاً ممتعاً ومسلياً سيواجه الحكومة الفرنسية.
وزير التعليم دعا رؤساء الأكاديميات التعليمية لأن يكونوا أكثر «حزماً ضد الهجمات على العلمانية»، تعبير سيجعل طفلاً على مقاعد الدرس مذنباً ومعتدياً على العلمانية، فقط لارتداء قميص أو فستان، كما سيجعل من مديري المدارس، الذين وجه إليهم تعميم بشأن كيفية التعامل مع هذه الظاهرة، مطوّعين وشرطة، وقد عبّر «بعض مدراء المدارس بالفعل عن استيائهم من تحويلهم إلى حكام لما يسمح وما لا يسمح بلبسه داخل مؤسساتهم».
لا أحد في إمكانه نفي التطرف الإسلامي في البلاد، وهو قد عبّر عن نفسه بأفظع الصور وأوضحها، مثلما ليس بإمكان أحد إنكار الغرق في التطرف الفرنسي نحو اليمين، ولكن لا بد من مواجهة التطرف في منابعه، ليس علينا أن نخاف جرّة الحبل إذا لدغتنا أفعى التطرف، على ما جاء في الأمثال.
ولعلها مصادفة لا تخلو من المعنى أن تسمح مدينة نيويورك، تماماً بالتوازي مع الحملة الفرنسية المذعورة، برفع الأذان للصلاة، هناك في المكان الذي شهد أفظع اعتداء إرهابي (11 أيلول)، وكذلك بتحديد أماكن للصلاة، وقد أعلن ذلك عمدة المدينة شخصياً، داعياً ممثلي الأقلية المسلمة، فيما ظهرت في الصورة أمريكيات مسلمات بالحجاب.
حرية للأبد
لم يشفَ السوريون بعد من الأمل، هذا الذي انفلت بضراوة في العام 2011، مع اندلاع الربيع العربي، وربما قبل ذلك مع التفاؤل بمحاكمة النظام السوري إثر جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وما تلاها من أحداث قادت إلى خروج مذلّ لجيش النظام من لبنان. لم يشفوا من الأمل برغم دموية ووحشية العشرية الرهيبة. إنهم يستعيدون، مع الاحتجاجات والتظاهرات اليومية المستمرة لمدينة السويداء ذكريات التظاهرات الأولى في عموم البلاد في آذار/مارس من العام 2011، الترقب، والحماس، والأغاني، واللافتات الفكهة، والنوافذ العديدة التي لم تعد تتسع لها شاشات الفضائيات العربية والعالمية، المدن، والقرى، وعدد نقاط التظاهر.
يتابع الناجون من مختلف أماكن لجوئهم الأمل المتجدد، قوة الهتافات ووضوحها وسطوع وجهتها، الوجوه غير الملثمة، أصوات النساء، الأغاني، تحطيم تماثيل وصور الأسدين، في تلك المدينة لم تعد تسمع صوتاً للشبيحة، المدينة برمتها (وهي حتماً تختلف على أشياء كثيرة) ستتفق على شيء واحد على الأقل: رحيل بشار ونظامه.
درس هذه المدينة بسيط جداً، واضحٌ حتى لو خيّم الصمت غداً بشكل نهائي: ما من مدينة سورية تتاح لها حرية القول، من دون براميل، ولا حواجز، ولا شبيحة، ولا قناصين، ولا تفجيرات متنقلة، أو حرائق مفتعلة تستدعي إطفائياً.. إلا وستقول الشيء نفسه، الكلمات نفسها التي حفظناها جميعاً عن ظهر قلب، من دون مواربة ولا تلعثم: «حرية للأبد، غصباً عنك يا أسد».
خبر محرج
هذا الخبر محرج، غالباً، للصحافة العربية، فلقد أضربَ صحافيو المجلة الأسبوعية الفرنسية «لو جورنال دو ديمانش» احتجاجاً استمرَّ أربعين يوماً، بالتوقف عن العمل، بعد أن دَعَمَ رئيسُ تحرير الصحيفة جيفروي لوجون، الصحافيُّ اليميني المتطرف، المرشحَ اليميني المتطرف إريك زيمور في الانتخابات الرئاسية الفرنسية للعام 2022. لقد رَفَضَ فريقُ التحرير أن يعود لوجون ليرأس صحيفتهم.
لا يهم أن الإضراب لم يفضِ إلى تغيير، فالصحيفة عادت للصدور بعد التوقف، إثر اتفاق بين المضربين وإدارة مجموعة «لاغاردير» الإعلامية الفرنسية المالكة للصحيفة، يقضي بإنهاء «الإضراب التاريخي لهيئة التحرير، وينص الاتفاق على استئناف تدريجي للعمل، بالإضافة إلى تقديم عروض للصحافيين الراغبين في مغادرة مكتب التحرير. وأعرب كثر منهم عن رغبتهم في المغادرة».
لا يهم أن الإضراب فشل في أي تغيير، فبعض المواقف يكفيها شرف الوثبة بالفعل، أن تبثّ الأمل بأن المروءة لا تذهب، وعلى ما يقول شاعر:
«حَسْبُنا الطريق، فإن أدَّت فأهلاً ومرحباً، وإنْ هي أوْدَت فالسُّراة بها كثر!».
* كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»