
حارسات الذاكرة … سوريات في مواجهة الغياب
في سوريا، لا يُقاس الحزن بعدد القتلى فقط، بل بعدد أولئك الذين اختفوا بصمت، ولم يعودوا. تحت سقف كل بيت غاب أحد أفراده، هناك امرأة تُكابر وحدها. أم، أخت، زوجة، أو ابنة، تحمل وجع الغياب على كتفيها، وتقاوم الزمن والخوف والوحدة، بحثاً عن أثر من تحب.
“كأنه ملح وذاب..”
تجلس إيمان، أم دمشقية في الخمسين من عمرها، قرب صورة نجلها الوحيد، وتحكي لموقع تلفزيون سوريا:
“كان واقفًا على الحاجز مع جارتي… لحظة واحدة اختفى فيها، ومن يومها، لا نعرف له طريقًا. سألنا كثيراً، ودفعنا كثيرًا. ولا أحد يجيبنا بعد أن يأخذ النقود”.
مثل إيمان، هناك آلاف السوريات اللواتي وقعن ضحايا لابتزاز ممنهج، قادته أجهزة أمنية وسماسرة متواطئون، حولوا مأساة العائلات إلى تجارة مربحة.
“كانوا يتفننون في تعذيبي”، تضيف إيمان، “يقولون لي: جهزي له الحمام.. حضّري له ملابسه.. بكرا بيوصل. وبكرا يمرّ، ولا يصل إلا وجع جديد”.
بين صيدنايا والانتظار
أماني، شابة من مدينة عين العرب/كوباني، ما زالت تحتفظ بصورة لأخيها إبراهيم، طالب الحقوق الذي اختفى عام 2012 بعد اعتقاله في حمص.
تقول: “شاهدناه بعدها في نشرة أخبار يعترف بجرائم لم يرتكبها. بالكاد عرفناه، وجهه تغيّر بسبب التعذيب… وكلّفنا محاميًا أثبت براءته، لكن إبراهيم لم يمثل أمام أي محكمة. اختفى مرة أخرى، وهذه المرة إلى الأبد”.
عرفت عائلة إبراهيم لاحقاً أنه في سجن صيدنايا، لكنهم حُذّروا من السؤال عنه، لأن السؤال قد يعني المزيد من التعذيب، أو حتى الموت.
“بعد سقوط النظام عادت لنا بارقة أمل، لكنها اختفت بسرعة. لم نصل إلى طرف خيط حتى اليوم”، تقول أماني.
النساء في مواجهة المجهول
سنوات من الصمت والخوف والتهميش عاشتها النساء السوريات في ظل منظومة اختارت الإخفاء كأداة للسيطرة. ومع كل حالة غياب، كانت امرأة تجد نفسها في قلب العاصفة، مسؤولة عن الإعالة، الحماية، وتربية الأبناء. كل هذا وسط مجتمع يُحمّلها أحيانًا وزر الغياب، أو يفرض عليها عزلة صامتة.
لم تكن المعاناة مادية فقط، بل اجتماعية أيضًا. بعض النساء تعرّضن للنبذ، أو ضغوطات للزواج من جديد، فقط للهرب من “وصمة” زوجة المعتقل.
عدالة غائبة.. وجرح لا يندمل
رغم تعهدات المرحلة الجديدة في سوريا بالعدالة والمصالحة، ما زالت آلاف العائلات تنتظر خبراً. مطلبهن بسيط: أن يعرفن مصير من اختفى. أن ينتهي هذا العذاب المعلّق.
“نريد فقط أن نعرف… هل ماتوا؟ هل ما زالوا أحياء؟ نريد قبورًا نبكي عليها”، تقول أم علاء من القنيطرة، والتي ما تزال تبحث عن ابنها المعتقل منذ 11 عامًا.
الناشطة الحقوقية والمحامية منار مونس ترى أن: “الاختفاء القسري ليس مجرد جريمة فردية، بل جريمة ضد الإنسانية. يجب محاسبة كل من تورط فيها، وتجريمها في القوانين السورية بشكل واضح، ضمن خطوات العدالة الانتقالية”.
سوريا الجديدة.. اختبار الحقيقة
بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، لا يزال أكثر من 100 ألف شخص في عداد المختفين قسرًا.
العدالة لم تعد ترفًا سياسيًا أو خطوة مؤجلة؛ بل مطلب إنساني عاجل.
سوريا لن تبدأ حقًا من جديد، ما لم تعترف بجرائم الماضي، وتحاسب الجناة، وتُكرم الضحايا.
تقول أماني، وقد اغرورقت عيناها بالدمع: “إذا كان أخي مات، نريد أن نعرف. نريد أن ندفنه، وننهي هذه الحكاية التي لا تنتهي. أما إن كان حيًا، فنريد أن نعرف أين هو.. لا شيء يُميت أكثر من هذا الصمت”.