
انقلبت الآية: سوريا قلقة من لبنان والعبث بأمن الساحل!
لم يعد المشهد بين لبنان وسوريا كما كان في العقود الماضية. فبينما كان لبنان ينظر دائماً إلى دمشق بخوفٍ من مشروع السيطرة والضمّ، انقلبت الصورة اليوم. سوريا هي التي تنظر إلى لبنان كمصدر قلق أمني وسياسي، وتعتبره خاصرة رخوة يمكن من خلالها تهديد استقرارها الداخلي، في ظل التغيرات الكبرى التي شهدها النظام السوري بعد سقوط حكم بشار الأسد وصعود القيادة الجديدة بزعامة أحمد الشرع.
من نفوذ الأسد إلى “الندّية الجديدة”
منذ سبعينيات القرن الماضي، رسّخ نظام آل الأسد نفوذه في لبنان، مستفيداً من الانقسامات الداخلية للتحكم بمفاصل القرار اللبناني. غير أن هذا النفوذ تراجع مع المتغيرات السورية الأخيرة. فاليوم، تطرح القيادة الجديدة في دمشق سياسة تقوم على “الندّية بين الدولتين”، وتؤكد – كما صرّح الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني – أن سوريا لن تسمح بعد الآن بأن تُستعمل كورقة استقواء من قبل أي طرف لبناني ضد الآخر، وأن صفحة الماضي قد طُويت.
حزب الله.. أكثر المتخوّفين
في المقابل، لا يخفي “حزب الله” مخاوفه من النظام الجديد في دمشق. فالحزب الذي كان المستفيد الأول من تحالفه مع نظام الأسد، يخشى اليوم من تغيّر موازين القوى الإقليمية، ومن انقطاع خطوط الإمداد التي كانت تمرّ عبر الأراضي السورية.
وتؤكد مصادر أمنية أن الحزب ما زال يحاول تهريب صواريخ متوسطة المدى ودقيقة الإصابة من سوريا إلى لبنان، في وقت تنجح دمشق أحياناً في إحباط هذه المحاولات، فيما تنجح أخرى بمرور بعض الشحنات، في لعبة توازن دقيقة.
تبقى ورقة سلاح حزب الله عنصراً مركزياً في الحسابات السورية والدولية. فدمشق قادرة على استخدام هذا الملف كورقة تفاوض مع القوى الإقليمية، وخصوصاً إسرائيل، عبر السماح مؤقتاً بمرور الأسلحة مقابل تخفيف الضغوط عليها أو تعديل شروط التفاوض. وهو سيناريو يشبه ما سعت إليه طهران في مراحل سابقة.
تعرف دمشق أن معركتها الحقيقية ليست فقط مع الخارج، بل في داخلها أيضاً. فالخلافات مع قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي، ومع زعماء محليين في السويداء والساحل، تشكل نقاط ضعف قد يستثمرها الخارج لإضعاف السلطة المركزية.
ولهذا، تعمل القيادة السورية الجديدة على تحصين الداخل عبر تفاهمات استراتيجية مع موسكو، تضمن استقرار الساحل وبقاء المصالح الروسية، مقابل حماية العلويين ودمجهم ضمن الدولة الجديدة، ومنع أي نزعات انفصالية قد يقودها ضباط سابقون من النظام المنهار.
هاجس “إقليم الساحل”
تزامناً مع تلك التفاهمات، كشفت تقارير عن تحركات لعدد من ضباط النظام السابق – من بينهم كفاح ملحم وكمال الحسن – لتشكيل مجموعات مسلحة في جبال العلويين، بهدف المطالبة بـ”إقليم الساحل” أو ما يسمى “وسط وغرب سوريا”.
وترى دمشق في هذه التحركات تهديداً جدّياً، خصوصاً بعد معلومات عن اتصالات بين هؤلاء الضباط وشخصيات كردية ودروز من لبنان، لتنسيق خطوات سياسية وأمنية مشتركة تحت غطاء “الإدارات الذاتية”.
وفي هذا السياق، رُصدت لقاءات في بيروت بين شخصيات سورية كانت محسوبة على النظام السابق وقياديات من “قسد”، مثل إلهام أحمد وفوزة اليوسف، بحضور شخصيات درزية مقربة من الشيخ حكمت الهجري. هذه اللقاءات دفعت دمشق إلى رفع مستوى الحذر، خشية أن يتحول لبنان إلى منصة لتحركات معارضة تهدد استقرارها.
ضباط الأسد في لبنان.. قنبلة مؤجلة
الملف الأكثر حساسية بالنسبة إلى دمشق يبقى وجود آلاف الضباط والعناصر السابقين من جيش النظام داخل الأراضي اللبنانية.
وتعتقد القيادة السورية أن بعض هؤلاء يعيدون تنظيم صفوفهم بانتظار لحظة مناسبة للتحرك، بالتنسيق مع أطراف داخلية وخارجية. وهذا ما دفع دمشق إلى مطالبة بيروت بضبط الوضع ومنع أي أنشطة تُستخدم ضدها، في حين تردّ بيروت بالمطالبة بتسليم شخصيات متهمة بجرائم على الأراضي اللبنانية – وهو ما تعتبره دمشق ملفاً عالقاً لأن “البيانات الأمنية” الخاصة بهم لا تزال في عهدة النظام السابق.
من ترسيم الحدود إلى ضبط التهريب، مروراً بملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، تشكّل هذه الملفات عناوين دائمة في الاجتماعات الثنائية.
ويؤكد الجانب السوري أنه مستعد لتعاون كامل شرط أن تتعامل بيروت بمبدأ المعاملة بالمثل، خصوصاً في ما يتعلق بتسليم ضباط الأسد المقيمين في لبنان.
يبدو واضحاً أن العلاقات بين بيروت ودمشق تسير اليوم بين حذر سياسي متبادل وواقعية براغماتية تفرضها الجغرافيا والمصالح المشتركة.
فسوريا الجديدة لا تريد عودة النفوذ القديم، ولبنان لا يريد مواجهة جديدة على حدوده الشرقية. وبين الطرفين تبقى الملفات الأمنية والحدودية مرهونة بميزان القوى الإقليمي، وبمدى قدرة دمشق على استعادة استقرارها الداخلي وموقعها الإقليمي الجديد.



