“الإِبن السيء” فيلم وثائقي للمخرج السوري غطفان غنوم: سرديّة الذات المغيّبة وفصول القمع السلطوي
يمضي المخرج السوري غطفان غنوم في فيلمه الوثائقي»الابن السيء» إلى ناحية تفكيك إشكالية الثورة السورية ضد نظام الأسد، التي بدأت شرارتها في منتصف آذار (مارس) 2011. وبدا واضحا أن غنوم في شريطه الذي يستغرق عرضه ثلاث ساعات من الزمن، ساعيا إلى إعادة قراءة هذا الحدث المفصلي في تاريخ سوريا الحديث والذي ما يزال قائما، رغم أنَّ سخونته قد خفت كثيرا في نشرات الأخبار، مثلما هي الوقائع أيضا على الأرض، إذ لم تعد تشهد تطورات ميدانية فاعلة، سواء على المستوى العسكري أو السياسي، إضافة إلى أن أحداثا أخرى دفعتها إلى خلفية المشهد الإعلامي الدولي مثل الحرب في أوكرانيا والسودان وغزة، بذلك تحولت الثورة السورية بكل صفحاتها المؤلمة إلى قضية منسية ولم تعد تشغل بال المجتمع الدولي.
يأتي هذا الفيلم في إطار الجهود الفاعلة لكسر حاجز الصمت لسرد حكاية الثورة في شقيها الذاتي والموضوعي، من بعد أن لعب الزمن دوره في تشويه حقيقتها وهي تواجه نظاما قمعيا مضى عليه أكثر من خمسين عاما وهو يقبض على عصا السلطة، وباتت صورتها مشوهة من خلال ما تبثه وسائل الإعلام من رسائل ضدها، رغم التضحيات المدنية الجسيمة التي قدمها الشعب السوري منذ انطلاقتها، وإزاء ذلك ليس هناك من وسيلة أكثر فعالية من الفيلم الوثائقي في التعامل مع هذا الواقع لكشف الحقائق المغيبة، وملامسة ما يمر على البشر من مشاعر موجعة كرستها تجارب بغاية المرارة مع أجهزة النظام في دمشق والميليشيات الأجنبية الداعمة له، وربما هذا النوع من الإنتاج السينمائي أكثر تأثيرا من أي نشاط آخر، لأنه يتخذ منحى البحث عن الحقيقة من دون أن يلجأ إلى تغيير أو تزييف أو تعديل للواقع.
عمد المخرج في حبكة الفيلم إلى أن تتداخل سيرته الذاتية مع سيرة الثورة، على اعتبار وجود علاقة متلازمة تجمع الاثنين معا، إذ لم تكن حياة المخرج بعيدة عن الثورة، فقد كان لها الحضور الأبرز في تشكيل وعيه ومواقفه ورسم مستقبله، حتى بات الحديث عن سيرته الذاتية لا يكتمل إلاَّ من خلال الحديث عن الثورة، والعكس صحيح.
ولكي يعيد ترتيب الوقائع المرتبطة بالثورة السورية، كان لابد له من أن يكسر الترتيب السردي الاطرادي، ويفك العقدة التقليدية حتى يتوغل بعيدا في تشابكات الزمن والأحداث التي مهدت للثورة، لأن العلاقة هنا وثيقة جدا بين الماضي والحاضر، وبين الذات والموضوع، والقضية التي انشغل بها المخرج لا تخرج عن مواجهة الذات بمستوياتها حضورها؛ ذات المخرج السارد للأحداث، وذات الثورة موضوعة الفيلم وبؤرته المركزية، فليس ثمة انفصال ما بين الإثنين
من هنا جاء الشكل الفني للفيلم من الناحية التقنية ليؤكد على هذا التلازم وصعوبة الفصل بينهما، ابتدأ من عناوين فصول الفيلم التي تم اقتباسها وبلمحة ذكية من عناوين أبرز الأفلام في تاريخ السينما، مثل «الديكتاتور العظيم، أوغاد مجهولون، العراب، صائد الغزلان، قصة موت معلن، النافذة الخلفية، حياة الآخرين، الجدار، مضطرب العقل سايكو، صراع العروش، مدينة الله، الرجل بدون اسم، المنبوذ، من أجل حفنة من الدولارات، الأزمنة الحديثة، سبارتاكوس، الرقص مع الذئاب، القيامة الآن، الجريمة والعقاب، الجيد السيء والقبيح، الحياة حلوة، ذهب مع الريح».
هذا التوظيف لعناوين الأفلام جاء بمثابة إشارة قوية على تبادلية العلاقة بين الفن السينمائي والواقع، وأن السينما تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل وعي المتلقين حول قضايا يضج بها واقعهم، ويمكن أن تؤدي إلى تغييرات في مواقفهم، وإذا ما تم توظيف هذه العلاقة برؤية فنية ناضجة وفي سياق مؤثر يعزز من تماسك حبكته كما في هذا الفيلم، فإن ذلك سيدعم آلية سرد الحقائق بصياغة جمالية مؤثرة وتقديمها بشكل لا يخلو من المصداقية والموضوعية.
وعندما لجأ المخرج إلى استثمار عناوين أفلام روائية شهيرة في تاريخ السينما فإنه بذلك يكون قد دعم فكرة أن الأفلام الروائية تستمد مادتها من الواقع، في مقابل الواقع الذي يقيم علاقة متفاعلة مع السينما في الأفلام الوثائقية التي تقدم رؤى جديدة وتساهم في تشكيل الوعي الجماعي، هذا التفاعل يعزز من دور السينما كوسيلة ثقافية مؤثرة في الواقع، ويضعها في مكانة أسمى من أن تكون مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة قوية للتغيير والتأثير الاجتماعي.
كان هذا الاقتباس تعبيرا عن شغف المخرج بالفن السينمائي، حيث سبق له أن دَرَس الإخراج السينمائي في جمهورية مولدافيا الشعبية، وانطلاقا من هذه الزاوية المهنية والجمالية أخذ ينظر إلى الحياة والأحداث لينتهي إلى توصيفها بجملٍ لها صلة وثيقة بعالم السينما، حتى بدا من غير الوارد بالنسبة له أن يسمي الأشياء في الواقع الذي تناوله بعيدا عن دلالات العناوين السينمائية، ومنها فصول الثورة السورية كما جاءت في تقسيمات البناء السردي للفيلم، وليس مهما أن العناوين التي اختارها تشير إلى أفلام روائية وليست وثائقية، كما لو أنه يستبعد إية أفكار تحاول أن تفرض حواجز ما بين الوثائقي والروائي ساعة تلقي العمل، ليؤكد بذلك على الصلة العميقة بين الواقع والفن السينمائي بنوعيه الوثائقي والروائي.
?
سرد بضمير المتكلم
?
يعود المخرج في النصف الأول من الفيلم إلى عدد من الوقائع والأحداث التي شهدها العالم قبل أن تنطلق شرارة الثورة، ليدحض سيل التصورات والأجندات التي نالت من حقيقتها، سواء كانت عن قصد أو عن قصور في الفهم، وكان لابد من اختيار هذا المسار لأجل أن تكون القراءة الذاتية لسارد الأحداث تتحرك في سياقها التاريخي، وإلاَّ فإن الفهم سيبقى عاجزا عن استيعاب حقيقة ما جرى من تشابكات مرت على الثورة بكل تعقيدات فصولها وخنادقها، وما أصبحت عليه اليوم من صورة يشوب الغموض مستقبلها، وقد أفضت هذه الاستعادة بصوت السارد وبصيغة ضمير المتكلم (المخرج) إلى صياغة حبكة متماسكة تداخل فيها الذاتي مع الموضوعي، ونجح سيناريو الفيلم بهذا الأسلوب في أن يعيد تركيب الأحداث وربطها مع بعضها، ولابد من التنويه إلى مسؤولية وفاء عاملي في كتابة العمل بهذه الصياغة الرصينة.
هناك كم كبير من الوثائق الفلمية في هذا الشريط تعود إلى فترات زمنية مختلفة من عمر الثورة، خصوصا في السنين الأولى منها قبل أن يغادر المخرج بلده سوريا هاربا من ملاحقة النظام، ومعظم تلك الوثائق تم تصويرها على أشرطة vhs وبسبب تقادم الزمن عليها تحللت ألوانها كما ضعفت دقتها، لكنها احتفظت بقيمتها الوثائقية المرتبطة بالثورة بقدر ارتباط بعضها بحياة المخرج في مدينة حمص والأحداث التي شهدتها وشارك فيها في الأيام الأولى من عمر الثورة، ما يعزز من القيمة التاريخية لأية وثيقة – حتى وإن كانت شخصية – إذا ما وضعت في سياق موضوعي، ويمكن من خلالها الكشف عن فصول مغيبة بغاية الأهمية، مثلما هي اللقطات العائلية التي قدمها الفيلم من الحفل البسيط الذي أقيم في شقة بسيطة في العاصمة بيروت، بمناسبة ارتباط المخرج وزواجه من إبنة أحد ثوار الأحواز الفارين من إيران.
ولأجل أن لا تسقط رؤية الفيلم في زاوية ذاتية ضيقة، لجأ المخرج إلى أن يكون السرد متناوبا ومتقاطعا في آن بين صوته المحوري السارد للأحداث، وأصوات أخرى لشخصيات حقيقية تظهر في الفيلم لتدلي بشهادتها باعتبارها مشاركة في صنع الحدث، أو أنها تستعيد سرده بعد أن مرت عليها الأعوام وهي تقيم في المنفى، ولاشك في أن تنوع تقنيات السرد وتوزعها على مجموعة أصوات/ شهود، إلى جانب السارد الأساس/ المخرج، يمنح مساحة كافية لتأمل ما جرى وبتفاصيل وتنويعات كثيرة، وليعيد بالتالي قضية الثورة إلى طاولة النقاش من بعد أن تعرض ملفها إلى التشويه والتزوير وأوشك أن يطويه النسيان.
?
بؤر متعددة للسرد
?
إن قيمة هذا الفيلم إضافة إلى نضج أدواته الفنية في سرد الحكاية وتكثيفها وما أفصح عنه من حساسية جمالية عالية في كيفية التعامل مع الوثائق الفيلمية المختلفة، تكمن في أنه أعاد قراءة التاريخ المعاصر من خلال الثورة السورية، لأن في تفاصيل حكايتها ما يلقي الضوء ساطعا على دهاليز السياسة الدولية وتداعياتها الدموية على تطلعات شعوب العالم الثالث نحو الحرية والعدالة. والفيلم من الناحية الفنية يعد نموذجا ناضجا في إعادة صياغة القضايا المجتمعية الشائكة ذات البعد السياسي بقالب فني سلس، وعبر حبكة تحتوي على بؤر متعددة، بالشكل الذي منح الفيلم فرصة أن يسبر أغوار النفس الإنسانية لشخصية السارد وتقصّي مشاعرها في أوجه مختلفة بقدر علاقتها بالثورة، إلى جانب ذلك فإن قيمته ليست في أنه يؤرخ لفترة زمنية عاصفة رغم أهمية ذلك، إنما قيمته تتجلى في أنه أعاد اكتشافها من جديد، بما يؤكد أهمية الفيلم الوثائقي بتقنياته وأدواته وجمالياته في تحريك الوعي وخلع أردية التشويه عن الوقائع والأحداث.
سيرة المخرج تشير إلى أنه من مواليد مدينة حمص عام 1976. خريج الأكاديمية الفنية الحكومية في جمهورية مولدافيا الشعبية عن قسم الإخراج السينمائي، وعضو نقابة الصحافيين في فنلندا، ومشارك في مهرجانات مسرحية محلية وسينمائية دولية عن أعمال مسرحية وسينمائية، وكاتب مقالات قصيرة في دوريات محلية وعربية.