المسيحيون والثورة في حمص
قبل قيام الثورة السورية بسنة زار القائم بأعمال السفارة الأميركية في دمشق “تشارلز هنتر” منزل الناقد المعروف “حنا عبود” فتحدث عبود آنذاك عما أسماها “نفسية الحمصي” الذي لا يعطي الأمور أحكاماً قطعية، ويسمح للزمن بأن يحل أشد المشاكل صعوبة، لذلك قال عبود أن حمص هي المدينة الوحيدة التي لم تعرف الثورات بل كانت تهزأ ممن يثور” وهذا الكلام الذي يجافي الحقيقة وينسف حقائق التاريخ من “مثقف” مسيحي يعكس للأسف، تفكير قطاع واسع من المسيحيين في حمص اختاروا الصمت إزاء جرائم النظام، إن لم نقل الانحياز والمشاركة في التعمية على هذه الجرائم بما فيهم رجال الدين.
بكل أسى، لم يخرج صوت من مسيحي واحد من حمص ليندد بهذه الجرائم بحق السنّة الذين احتووا المسيحيين بينهم مئات السنين بإخوة وتعاون على السراء والضراء. وقد يستغرب القارئ أن معظم الأحياء المسيحية أبدت سعادتها الغامرة، بخروج المحاصرين من حمص القديمة، بل وباركت لقوات الأسد بسط سيطرتها على هذه الأحياء. وما إن خرج محاصرو حمص بعد أشهر عجاف مات الكثير منهم خلالها جوعاً حتى بدأت الصفحة الطائفية بامتياز “حارتي الحميدية ببساطة” نشر صور تنظيف الشوارع وتعليق صور بشار، والتصريح للقنوات التابعة للنظام، وقنوات عالمية أخرى، عن عودة الحياة لتلك المناطق رغم أن النظام لم يزرع فيها إلا الموت والدمار.
ومن أجل أن يثبت النظام للغرب اهتمامه بالمسيحيين، ويتاجر بملفهم، كما هي عادته، أوعز للشركات والمؤسسات التابعة له، وطلب من أصحاب الفعاليات التجارية والصناعية الكبيرة بحمص ممن ترتبط مصالحها مع مصالحه بتوفير ما يلزم من معدات ومواد بناء وآليات ثقيلة لإزالة الأنقاض والسيارات المحترقة من الشوارع، وتوفير خزانات المياه وإعادة تأهيل البنى التحتية لتلك المناطق التي دمرها جيشه، بل وأمر بترميم جميع الكنائس التي دمرها هو بنفسه بينما ترك مساجد المسلمين مدمرة بالمئات، وما ذلك إلا من أجل تجميل وجهه أمام الغرب المسيحي، وتثبيت فكرة أنه يرغب بعودة المسيحيين إلى أحيائهم ومنازلهم -وفق ناشطين-.
لعل الصورة الأكثر وخزاً، هي دخول بعض رجال الدين المسيحي ومن بينهم بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، مار اغناطيوس يوسف الثالث يونانإلى، جانب مدير أوقاف حمص الموالي للنظام “عصام المصري” إلى جامع خالد بن الوليد بعد أن انفض أهل حمص عنه وأثارت الصور التي نشرت العام 2013 حفيظة الكثيرين، وخصوصاً أن رجال الدين المذكورين بما فيهم عصام المصري لم يراعوا حرمة المسجد ودخلوا بأحذيتهم إلى المصلى الداخلي ووقفت إلى جانبهم عدد من الفتيات السافرات بسروايل الجنز الضيقة والملابس القصيرة، ومن خلفهم عدد من شبيحة النظام، وأخذت الصورة في زاوية لم تطلها قذائف قوات النظام، وعلى بعد أمتار قليلة من ضريح الصحابي خالد بن الوليد الذي تحول إلى ركام من التراب والخشب وتهاوت قبة الضريح منذ أيام وفق ما أفاد الناشط ” أبو ياسين” .
خلال عشرات السنين، زار قادة وساسة وعلماء مسجد خالد، موقرين له، محترمين قدسيته، منهم جواهر لال نهرو، وتيتو، وجمال عبد الناصر، ولم يجرؤ أحد من هؤلاء ولا غيرهم على الدخول إليه بالحذاء احتراماً لقداسة بيت الله أولاً وتقديراً لشخصية صاحب المقام.
أما في عهد الأسد، فمن السهل أن يقوم حفنة من مدعي الدين، المطبلين للنظام والمسبحين باسمه، بدخول بيت الله استفزازاً لمشاعر أهل المدينة الذين طالما اعتبروا خالد بن الوليد سيدهم ورمزهم، فهو الذي أدخل الإسلام إلى المدينة و أمّن تحريرها .إضافة إلى أن جامعه ظل على مدى العصور موئلاً للحرية والنضال، ودرج في محاريبه ومصلاه عدد كبير من علماء المدينة ورجالها الذين وقوفا دوماً ضد الاحتلال الأجنبي لحمص ولسوريا.
لا يعلم الأسد ولا يدرك شبيحته أن منبر مسجد خالد وخطبه، كانت لسنوات طويلة بمثابة بيانات تحريض تدعو الناس للثورة والتحرر وفك القيد، ويكفينا أن نذكر الشيخ جمال الدين الجمالي مفتي الشافعية في حمص وإمام وخطيب جامع خالد بن الوليد الذي كان عالماً وثائراً ضد الاستعمار الفرنسي وكان يهاجم الانتداب الفرنسي من على منبر الجامع هجوماً لاذعاً مستمراً، لا هوادة فيه. حتى إن المستشار الفرنسي بحمص حاول التقرب منه بزيارته في بيته، بعدما رفض الشيخ زيارة المستشار في مكتبه بقوله الذي ذهب مثلاً (نحن لا نزار ولا نزور ). وقد تعرض للنفي عام 1933 ولم تعد له حريته، إلا بعد مظاهرات صاخبة واحتجاجات مستمرة في حمص وفي المدن السورية واللبنانية على السواء.
كل هذا وبعد ثمانية عقود، من التبجيل والتقدير ومعرفة قدر المسجد وصاحبه، يأتي قوم حقدة، جهلة بالتاريخ ليدنسوا المسجد بأحذيتهم وطائفيتهم البغيضة، مع نساء كاسيات عاريات، ويستفزون الناس في عقائدهم ودينهم، بيد أنهم لا يعرفون من هم أهل حمص.
مصدر | خاص
تعليق واحد