
لبنان الرائع على أي حال .. راشد عيسى
هناك فضول شديد لمعرفة الآلية التي اتّبعها وزير الثقافة اللبناني، ونظراؤه في العالم العربي، الذين قرّروا منع الفيلم السينمائي «باربي» من العرض في صالات السينما.
عندما يقول الوزير اللبناني وسام مرتضى، في بيانه/ مرافعته ضد الفيلم، إنه (الفيلم) «يُسوّق فكرة بشعة، مؤدّاها رفض وصاية الأب، وتَوْهين دور الأم، وتسخيفه، والتشكيك بضرورة الزواج وبناء الأسرة»، هل شكّلَ لجنة من مختصين يملكون مفاتيح قراءة عملٍ إبداعي، مخرجين، نقاد، مربّين، محللين نفسيين، باحثين اجتماعيين..
ذلك أن أي عمل إبداعي غالباً ما يخلّف وجهات نظر قد تكون متباينة للغاية، وبالتالي من غير المقبول الاعتماد على وجهة نظر متفرج واحد، خصوصاً إن كان من أمثال وزير الثقافة اللبناني، أولئك (الأمثال) الذين، تقريباً، لا يحسنون قراءة فاتورة الكهرباء، فما بالك بقراءة فيلم!
على أي حال من المستبعد أن يكون الوزير مرتضى قد كلّف خاطره بتشكيل لجنة تحكيم. لماذا أصلاً؟ هل الديمقراطية هاجسه ليبرر بأنه قرار لجنة وليس قراراً فردياً لوزير؟! أو هل يعنيه ضغط الرأي العام ليستجيب له بالشرح والتفسير والتسويغ؟! لكن من المستبعد أيضاً أن يكون الوزير، في بلد الحزب الحاكم الواحد، قد قرّرَ من تلقاء نفسه، فمن المرجح، كما يحدث عادةً في دول الممانعة، وفي الأنظمة الشمولية، أن يكون القرار قد أُمليَ بالهاتف، وما على العبد المأمور إلا البلاغ.
لكن لبنان الرائع كان بالمرصاد، إذ صدر بيان لمجموعة من المثقفين والفنانين والإعلاميين يدينون «الموقف الظلامي لوزير الثقافة»، استغربَ موقّعوه أن موقف الوزير يأتي «فيما تتعرّض حياة اللبنانيين للخطر، بسبب السلاح والتفلّت من العقاب، وتتعرّض معيشتهم لانخفاض مريع بسبب النهب والسرقة»، وهنا فإنّ «عقولهم تتعرّض، هي الأخرى، لهجمة لا تقلّ خطراً وفتكاً».
وقال بيانهم إن «سياسات التدخّل والمنع في تَزايُد يكاد يصبح منهجيّاً، والعدوان هذه المرّة إنّما يستهدف الأعمال الفنّيّة والسينمائيّة، والإبداعيّة بمعنى الكلمة الأوسع، فما بات مسموحاً به في بلدان مجاورة، كانت حتّى الأمس تعتبر لبنان منارة للحرية، غدا مقموعاً في لبنان نفسه. وبدل الاقتداء بالتجارب التي تفوقنا حرّيّةً وتقدّماً في العالم، صرنا لا نقتدي إلاّ بالنماذج التي تفوقنا تخلّفاً وضيقاً في المنطقة».
وربما كانت الإشارة هنا إلى المملكة السعودية، التي سمحت، في مفارقة تاريخية، بعرض فيلم باربي»، من دون حساب لـ« هيئة أمر ونهي»، هذه التي استقرت في رأس وزير الثقافة اللبناني، وفي دول عربية أخرى، كالكويت والجزائر، وسواهما. (هناك كلام في الإعلام أن الفيلم ممنوع أيضاً في سوريا، ولكن رقابة الأخيرة أدهى، إذ غالباً ما تمنع شفاهة، من دون أي تصريح رسمي أو معلن).
ومن الواضح أن بيان المثقفين اللبنانيين ليس معنياً تماماً بالدفاع عن الفيلم المشار إليه نفسه، فالأساس هو الدفاع عن حرية التعبير، الإبداع، وحق المشاهدة. كذلك يدرك موقّعوه تماماً من أين يأتي القرار، فـ «إلى الوزير هذا، يقف كثيرون، دينيّون وزمنيّون، يتولّون رعاية انحطاطنا والتدخّل في حرّيّات المواطنين»، و«الهدف هو بالضبط سَلْبُنا الحريات التي أعطت بلدنا بعض خصوصيّاته في الماضي، كما أعطتْنا ذاك الشعور بكرامة التجرّؤ على المسلّمات والمحرّمات، وإخضاعنا لسلطات بعضها مسلّح بالبنادق، وبعضها مسلّح بالعقائد والمعتقدات القاتلة».
يختم مثقفو لبنان بالقول: «نحن من حرياتنا ننطلق، فنحاول ونختبر ونجرّب ونتعلّم، وعلى هذا النحو نريد أن نكون، فلا ينتهي بنا الأمر مُبرمَجين مثل «معالي» وزير الثقافة، الذي تبرمجه أفكار قُدّت من خشب يابس». و«إنّ هذه “الثقافة” المناهضة للثقافة ينبغي أن تسقط، وأن يسقط معها من يرمزون إليها، ومن يقفون وراءها. هذا إذا شئنا أن نكون أحراراً في بلد حرّ».
روعة البيان اللبناني الاحتجاجي تكمن في إصراره على دور لبنان المنارة، وعلى دور المثقف في بلد ينهار، إذ بإمكان اليائسين أن يَنْفُضُوا، في المقابل، أيديهم، من كل دور، ما دام لبنان الغالي قد بات في الحضيض، فمن يشغل باله الآن بفيلم ممنوع، في البلد الغارق بالعتمة والنفايات ونترات الأمينيوم والاغتيالات المتنقلة، والأهم؛ الإفلات من العقاب.
الرائع في بيان اللبنانيين أيضاً أنه يصلح لأن يكون رداً على منع مماثل في الكويت وفي الجزائر، حيث قررت وزارة الثقافة والفنون سحب الفيلم من الصالات، بعد ثلاثة أسابيع من عرضه. وحيث، ربما، لن يكون من السهل إصدار بيان مماثل من داخل البلد.
ولا بدّ أن كرة المنع ستتدحرج إلى غير بلد عربي.
لبنان إذاً، في قوله الفريد والحرّ، ما زال المنارة، برغم الانهيار المديد والعميم.
أما وسام مرتضى، ومِن ورائه غرف الأيديولوجيا، فمصيرهم هكذا، سيظلون قابعين على كرسي الرقيب؛ يراقب ما فلت من الثياب، والحروف، والصور.



