
نتنياهو وإغلاق مكتب “الجزيرة” .. محمد كريشان
«إسرائيل بدأت الخطوات العملية لإغلاق مكتب الجزيرة فيها»… هذا ما صرح به مؤخرا وزير الاتصالات في حكومة نتنياهو بعد أيام من إعلان الأخير أنه سبق له أن دعا «عديد المرات» إلى ذلك وأنه «إذا كان الأمر غير ممكن بسبب تفسير القانون، فإنني سأتكفل بالتصديق على القوانين المطلوبة لطرد الجزيرة من إسرائيل».
إذن تبدو إسرائيل جادة هذه المرة بعد اتهام نتنياهو المحطة بــ «التحريض على أحداث العنف الأخيرة في القدس» بحيث لم تعد تكتفي بالإعراب عن استيائها أو تبرمها من تغطية المحطة لأحداث معينة، كما سبق أن فعلت مرارا، بل ها هي تتجه إلى تعديل قوانينها التي كانت تفتخر بأنها «ديمقراطية وليبرالية في محيط عربي مستبد وقمعي» لتتماهى في النهاية مع جيرانها، ومن شابه جيرانه فما ظلم!! لماذا يفعل نتنياهو ذلك؟ ولماذا ينتقل هذه المرة سريعا من استنكار ما تفعله المحطة إلى اتخاذ إجراءات الإغلاق؟؟ ببساطة لأن لا ظرف أفضل من الحالي وعدد من الدول العربية تجعل من إغلاق المحطة برمتها، وليس مكتبا لها فقط، مطلبا رسميا معلنا. من سيلومه على ذلك؟!
قبل سنتين، وقفت في قلب مدينة يافا أمام الكاميرا في ذكرى نكبة فلسطين عام 1948 لأتحدث عن ضياع وطن وإحلال شعب محل شعب وتسمية على الخارطة محل أخرى، بعدها قلت لوليد العمري: أليس غريبا وطريفا في آن معا أن أقول ما قلت بل وأن نخصص تغطية كاملة لعدة أيام لذكرى تطعن في شرعية دولة نحن نبث من أراضيها؟!! ابتسم وليد وقال، وهو العارف جدا بطبيعة هذه الدولة التي يجيد لغتها ودرس في جامعاتها ويعمل فيها صحافيا منذ ثلاثين عاما: في إسرائيل بإمكانك يا صاحبي أن تقول ما تريد… لن يزعجهم ذلك في شيء، لكن بمجرد أن تتحرك خطوة عملية واحدة تمس الأمن فلن يرحمك أحد.
إذن، حتى هذه «الميزة» الإسرائيلية بدأت في التراجع لتقديرات سياسية لم تعد تختلف عن تقديرات دول لا تقيم وزنا لأية حرية تعبير أو صحافة مثل السعودية والإمارات ومصر، وبالتالي فآلية التفكير السياسي لدى القيادة الإسرائيلية هي الآن بصدد الاقتراب من آلية دول كهذه، مع أنها كانت تفاخر بـ «ديمقراطيتها» التي تميزها عن هذه البيئة العربية المتخلفة. أكثر من ذلك، يبدو أن العقيدة الأمنية لإسرائيل، هذه الدولة الأمنية بامتياز، في طريقها إلى التحول من عقيدتها الغربية الليبرالية التي سارت عليها لعقود، في التعامل داخليا مع الإعلام، إلى تلك العقيدة العربية ضيقة الأفق التي ترتعد فرائصها لمقال هنا أو هناك أو تقرير تلفزيوني في هذه المحطة أو تلك.
أما تهمة «التحريض» فهي الكلمة المفتاح التي اقتبستها إسرائيل حرفيا من الدول العربية التي تعشق هذه الكلمة كلما جاء الحديث على ذكر اسم القناة إياها، وكأن الناس عديمو الإحساس ولا يشعرون بالظلم الواقع عليهم فيحتاجون لمن يحرضهم على التمرد عليه، أي أن هذا المواطن المقهور لن يخرج إلى الشارع هاتفا أو محتجا أو راميا بحجر إلا بعد أن يشاهد نشرة أخبار أو برنامجا على شاشة هذه القناة… أي سخف هذا؟!!
على فكرة، لقد دأب بعض الناس، وليست الحكومات فقط، على اتهام ذات المحطة بالتحريض خلال تغطية الحركات الاحتجاجية في البلاد العربية. هنا لم يعد المشكل هذه الدكتاتورية أو هذا الحاكم الدموي وإنما هذه القناة!!. أكثر من ذلك، ما زال بين ظهرانينا، وهم ليسوا بالجهلة أو الدهماء، من يتهم القناة نفسها بالمسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في العراق وسوريا وليبيا واليمن بل ويحمّـلها وزر كل الدماء التي سالت. هؤلاء يرفعون من قدر هذا التلفزيون في معرض الحط منه، إذ من هي وسيلة الإعلام هذه، كائنا ما كانت، التي يمكن لها أن تؤثر في الناس إلى هذا الحد؟؟!! وأي قطيع من الناس هؤلاء الذين يمكن أن تحركهم هذه الوسيلة كما تشاء؟!! لقد أدخل أصحاب هذا الرأي نظرية جديدة في علم الاجتماع السياسي تسمى: التلفزيون كمحرك للتاريخ!!
وإذا ما سلمنا أن في تغطية هذه المحطة بعضا مما يمكن وصفه فعلا بالتحريض فإن تقويمه وإصلاحه لن يكون إلا مهنيا، ومن قبل الصحافيين أنفسهم، أما المنع والإغلاق فلن يؤدي إلى ذلك أبدا. بالعكس هذا سيجعل هذه المحطة، بل وأي محطة أخرى مكانها، في حل من أي مراعاة هنا أوهناك حرصا على عدم إغلاق مكتبها وسلامة العاملين فيه، فتنطلق ربما أشرس من السابق لأنه لم يعد لديها ما تخشاه.
لا يوجد سوى وصف واحد لكل من يتوهم أنه أمن شر أي وسيلة إعلام لمجرد أنه أغلق مكتبها: الغباء.



