الإعجاز العلمي في القرآن: ما قصة هذه الفرضية، وما هي مواقف العلماء وخبراء الدين منها؟

تنوعت مناهج تفسير القرآن الكريم، ما بين التفسير البياني، والعلمي، والباطني، والتاريخي، وفي عصرنا ذاع التفسير العلمي للقرآن والحديث، كمحاولة لمسايرة روح العصر المنتشي بإنجازات ومبتكرات العلم الحديث.

تلك الطريقة في التفسير تسببت في خلق إشكاليات عدة بين النص الديني والعلم، حيث اشتط بعض العلماء في تأييدها ظناً منهم بأن القرآن يحوي كل العلوم، بينما رفضها أخرون، منزّهين المقدس عن الدوران في فلك العلم المتغير.

ما المقصود بالإعجاز العلمي في القرآن؟

عرّف المؤتمر العالمي الأول للإعجاز العلمي في إسلام أباد 1987 الإعجاز العلمي بأنه “تأكيد الكشوف العلمية الحديثة الثابتة، والمستقرة للحقائق الواردة في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، بأدلة تفيد القطع واليقين باتفاق المتخصصين، وتهدف دراسته وإجراء البحوث فيه إلى إثبات صدق النبي فيما جاء به من الوحي بالنسبة لغير المؤمنين، وتزيد الإيمان وتقوي اليقين في قلوب المؤمنين”.

والحديث عن الإعجاز في القرآن قديم، وذكره الإمام أبو حامد الغزالي، والألوسي، حتى جاء القرن العشرون ليشهد أكبر حركة للتفسير العلمي، كان على رأسها محمد فريد وجدي، وطنطاوي جوهر، والرافعي، وصولاً إلى مصطفى محمود، وزغلول النجار وغيرهم، كما تم تأسيس معاهد ومنظمات عالمية للإعجاز العلمي، من أهمها الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

الإعجاز العلمي في الكتاب المقدس

لم تقتصر دعاوى الإعجاز العلمي على المسلمين فقط، بل سبقهم إليها العديد من الباحثين اليهود والمسيحيين، مثلاً، تحدث فوزي إلياس في كتابه “الكتاب المقدس والعلم الحديث” عن إعجاز علمي في مسائل عديدة منها زمن خلق الأرض؛ حاول فيها حل تعارض نظرية خلق العالم في ستة أيام مع النظريات العلمية عن عمر الكون، وفسر ذلك بأن اليوم الواحد من الستة يبلغ ألف عام، واليوم منهم بألف آخر، وذكر نص من رسالة بطرس الثانية يقول “إن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد”.

وفي نفس المرجع تحدث عن الإعجاز في كروية الأرض، ففي سفر أشعياء يقول عن الله: “الجالس على كرة الأرض” وفي سفر الأمثال: “رسم دائرة على وجه الغمر“. أما عن قانون الجاذبية فيقول المؤلف أنه معروف من قبل فقد قال أيوب عن الله “يعلق الأرض على لا شيء”.

الإعجاز العلمي في القرآن: هل هو مجرد تلاعب بالألفاظ؟

يرى عدد من الباحثين أن التفسير العلمي يقوم على تحميل الكلمات معاني لم تعرفها وقت نزول الوحي، وهو ما يتعارض مع الوضوح الذي اتسم القرآن.

في كتابها “القرآن والتفسير العصري” تذكر عائشة عبد الرحمن، أن القرآن معجزة بلاغية لنبي أمي، في قوم من البدو كانت حياتهم بسيطة، لم تعرف تعقيدات العلم الحديث، فكيف كان سيخاطبهم بالمعجزات العلمية.

وتكشف عائشة مثالاً عن التلاعب بمعاني الكلمات لتحميلها بالنظريات العلمية فتقول: “وتحدث أحدهم عن الإعجاز البيولوجي في الآية: (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) مبيناً أن العلم كشف أن الأنثى هي التي تنسج البيت وليس الذكر، فترد قائلة: “إن المبتدئون من طلاب اللغة العربية يعرفون أن العرب أنثوا لفظ العنكبوت والنمل والنحل والدود، وأن القرآن جرى على لسان العرب، ولا علاقة للأمر بإعجاز علمي لم يبينه الرسول للناس”.

ومثال آخر ذكره شاكر النعماني في كتابه “إعجاز القرآن بين الحقيقة والبهتان”، وهو أن الآيات القرآنية لم تصرح ولو مرة بأن الأرض كروية الشكل، كما أن أقوال المفسرين أجمعت على أن كلمتي “طحاها” و”دحاها” بمعنى بسطها، وليس من الدحية بمعنى البيضة، والمعنى الأخير هو ما اعتمد عليه المفسرون بالإعجاز في إثبات سبق القرآن للقول إن شكل الأرض بيضاوي.

ويذكر خالد منتصر في كتابه “وهم الإعجاز العلمي” مثالاً أخر، فقد قال المفسرون أن هناك إعجازاً في سورة الأنعام في قوله تعالي: (من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء)، وهو أن القرآن كان أسبق من العلم في اكتشاف قلة الأكسجين كلما ارتفعنا في الفضاء، وانخفاض الضغط الجوي، مما يسبب صعوبة التنفس وضيق الصدر.

إلا أن المعنى في قاموس العرب يختلف فـ”يصعد” تعني محاولة على مشقة في عمل شيء مستحيل، فالمراد من الآية أن ضيق صدر الكافر يشبه ضيق شخص يحاول الصعود للسماء فلا يستطيع، وهو ما يوافق تفسير السعدي: “لا ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه وشدته يكاد يصعد في السماء، أي: كأنه يكلف الصعود إلى السماء، الذي لا حيلة له فيه”.

ويرى خالد منتصر في مرجعه السابق أن منهج الإعجاز مغلوط، ومقلوب؛ فبدلاً من المبادرة لاكتشاف النظريات العلمية المزعومة، تجدهم ينتظرون حتى يعلن العلم عن نظرية ثم يسارعون ويبحثون داخل النص عن كلمات يفسرونها لتوافق النظرية.

ووصفت عائشة عبد الرحمن في كتابها السابق مفسري الإعجاز العلمي بأنهم مهزومون نفسياً، ويساهمون في استمرار تأخر الأمة، بتخديرها بالمسكنات بدلاً من استنهاض الهمم والأخذ بوسائل التطور.

الشعر والأساطير قد تحمل إعجازاً علمياً

ذكر عدنان إبراهيم في حلقة بعنوان “الإعجاز العلمي في القرآن“، أن العديد من المعارضين للتفسير بالإعجاز يرون أن تأويل الألفاظ يجعلنا نجد إعجازاً علمياً في كلام غير المسلمين أيضاً، كما في أبيات الشاعر عمرو بن نفيل:

أسلمت وجهي لمن أسلمت … له الأرض تحمل صخراً ثقالاً

دحاها فلما رآها استوت … على الأرض أرسى عليها الجبالا

وهو القول الذي يعني أن عمرو بن نفيل قد أكد بيضاوية الأرض، لأنه استخدم لفظ دحاها، الذي ورد في القرآن وبنى عليه مؤيدي الإعجاز العلمي نظرياتهم التفسيرية.

ونفس الموقف يراه خالد منتصر في إعجاز آية (ولقد خلقنا الإنسان من طين) التي بين زغلول النجار إعجازها، بأن جسم الإنسان يتكون من عناصر تماثل نسبة وجودها في الطين. ثم يضيف منتصر أن أساطير الخلق في حضارات العراق ومصر واليونان، وأيضا التوراة، تحدثت عن خلق الإنسان من الطين، فهل تحمل إعجازاً علمياً هي الأخرى؟

اختلاف منهج العلم عن الإعجاز العلمي للقرآن

يقول محمد السيد في كتابه “التمييز بين العلم واللاعلم”: “أن اللاعلم هو كل الأنشطة والفعاليات الفكرية التي لا تتفق مع العلم في منهجه أو في مقصده أو فيهما معاً، والتي لا يمكن إخضاع قضاياها للاختبار التجريبي وإعادة الاختبار. ومن هنا فإن هذا المصطلح يشمل الميتافيزيقا والأيديولوجيا والدين والسحر والأسطورة والتنجيم”.

وفق هذا التعريف لا يندرج النص الديني بما يحمله تحت باب العلم، وربما يساهم القرآن في إحداث فروض علمية كعملية إلهام فردية، إلا أنه سيظل بعيداً عن منهج العلم التجريبي القابل للتغيير دائماً.

موقف رجال الدين: تأرجح ما بين القبول والرفض

برر المؤيدون للإعجاز موقفهم بعدد من الآيات، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله في سورة النحل (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، على سبيل المثال، يقول مصطفى الرافعي في كتابه “إعجاز القرآن”: “إن في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعوناً على تفسير بعض معاني القرآن والكشف عن حقائقه”.

على الجانب الأخر، رفض عديدون منهج التفسير العلمي للقرآن؛ لاختلاف العلم الذي يُعتبر التغير إحدى سماته عن القرآن الذي يتصف بالثبات واليقين، ولأن القرآن أتى للعرب بلغتهم ولم يكن يحمل أسراراً للمستقبل.

في ذلك المعنى، يقول الإمام الشاطبي (تـ. 790هـ/ 1388م)، في كتابه “الموافقات”: “يجب ألا نلتمس في القرآن، ولا في الحديث ما يخرج عن معهود العرب من العلوم والمعارف، وعلوم العرب مذكورة معروفة كالعلم بمواقع النجوم، وما يختص بالاهتداء بها في البر والبحر والعلم بالأنواء، وأوقات نزول الأمطار، وانتشار السحاب والعلم والتاريخ وأخبار الأمم الماضية، وهذا الصنف من المعارف ذكره القرآن في غير ما آية”.

وممن قالوا بذلك في العصر الحديث، شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت في كتابه “تفسير القرآن الكريم” حيث يقول: “إن هذه النظرة للقرآن خاطئة من غير شك، أولاً: لأن الله لم ينزل القرآن ليكون كتاباً يتحدث فيه إلى الناس عن نظريات العلوم، ودقائق الفنون، وأنواع المعارف، ثانياً: لأنها تحمل أصحابها والمغرمين بها على تأويل القرآن تأويلاً متكلفاً يتنافى مع الإعجاز ولا يستسيغه الذوق السليم، ثالثاً: لأنها تعرض القرآن للدوران مع مسائل العلوم في كل زمان ومكان”.

الإعجاز الأشهر: “خلق الجنين” إعجاز علمي أم حدث مألوف للعرب؟

تحدث القرآن في مواضع عدة عن عملية خلق الإنسان في رحم الأم، حيث ورد في سورة المؤمنون “ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (12) ثم جعلناه نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين”، وتعتبر هذه الآية من أهم الإعجازات الصريحة في القرآن وفق أغلب المفسرين.

يقول خالد منتصر معارضاً في مرجعه السابق: “إن د. زغلول أوقع نفسه في الفخ، فعلمياً لا تتكون العظام أولاً ثم تكسى باللحم، إنما يكون العظام واللحم في نفس الوقت حيث تنقسم خلايا الجنين إلى ثلاث طبقات: اكتوديرم والميزودرم والاندوديرم، فتكون الأولى المخ والأعصاب والجلد، والثانية العظام والعضلات بالتزامن، والاخيرة منها الأمعاء والكبد إلخ”. 

وأوضح منتصر أن عملية الخلق المذكورة لم تكن معجزة للعرب، بل أتت في سياق الدعوة بمفاهيم عرفوها، ومشاهدات الحمل المتعددة كانت معروفة عن طريق سقوط الجنين في مراحل مختلفة للحمل، ومن ثم فلا خطأ ولا إعجاز إنما حديث بلغة عصرهم.

عدنان إبراهيم ومحمد شحرور: التفسير العلمي لحل الإشكاليات بين العلم والنص

نهج المفسرون بالإعجاز إلى الانتقاء من العلم ما يوافق ظاهر النصوص، وأنكروا ما خالف إجماع رجال الدين، من نظريات الانفجار العظيم والأكوان المتعددة والتطور، حتى إن مفتي السعودية السابق عبد العزيز بن باز كذب دوران الأرض حول الشمس، في مقابلة مصورة وكذلك في مقالة.

ولكن تصدى عدد من الدعاة المجددين لبيان عدم التعارض بين النص وبين هذه النظريات، فيقول محمد شحرور في إحدى حلقات برنامجه التلفزيوني أن عملية الخلق في القرآن لا تعارض نظرية التطور لدارون، وبين أن آية الروم: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون) تؤكد النظرية، بحرف العطف “ثم” الذي أفاد وجود زمن طويل بين بدء عملية خلق الإنسان من تراب وانتهائها ليصبح بشراً، وهو ما يتوافق مع النظرية؛ حيث تكونت الحياة من عناصر لا عضوية، وصولاً إلى الإنسان خلال عملية تطور استمر ملايين السنين.

كما أن أية (الذي خلقك فسواك فعدلك) توضح أن الإنسان لم يكن منتصب القامة في البداية وهو ما يوافق نظرية التطور.

هنا مقابلة مع الدكتور محمد شحرور يستنكر فيها الإعجاز العلمي في القرآن، ويرى أنه محاولة للسطو على انجازات الغرب:

وأوضح عدنان إبراهيم في برنامجه التلفزيوني أن القرآن صدق نظرية الانفجار العظيم في نشوء الكون، فقد ورد في سورة الأنبياء (أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما) أي كانت كتلة واحدة، ثم حدث الانفجار ليعاد التكون خلال مليارات السنين.

هنا مقابلة لعدنان إبراهيم يوفق بين نظرية الانفجار العلمي والقرآن الكريم، وبين نظرية الأكوان المتعددة وتوسع الكون:

وآية (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده) يراها عدنان موافقة لتوقع الفيزياء بانهيار الكون مرة أخرى، والآية في سورة الذاريات (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون)، التي يرى فيها تأكيداً على تمدد الكون.

 

 

 

 

حامد فتحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى