النظام السوري متقمصاً دور النبي يوسف .. راشد عيسى
فوجئت أخيراً، وبعد أن صار فيلم “مطر حمص” للمخرج السينمائي جود سعيد، متاحاً على “يوتيوب”، أن ثيمة النبي يوسف ليست جديدة تماماً في “بروباغندا” النظام السوري. فبطل الفيلم، وراويه، والذي نسمع صوته في أنحاء مختلفة من الفيلم يروي يوميات الحرب في مدينة حمص، ممثلاً وجهة نظر النظام، يحمل إسم يوسف، وتكون العبارة الافتتاحية له في العمل: “أنا يوسف يا حمص”.
لا يخبئ العمل المعنى، بإمكانك أن تقرأ أن النظام هو يوسف، النبي، الحالم، الجميل، الضحية، الذي يتكالب عليه الإخوة، وهو المنتصر في النهاية. أما إخوة يوسف، فبالإمكان إسناد الأدوار إما للسوريين أنفسهم، ممثَّلين بإثنيات وطوائف، أو توسيع الدائرة لتشمل مختلف الكواكب العربية.
لكن الغريب أكثر أن تجد على الضفة المقابلة، في سينما تندرج في مواجهة النظام الثيمة نفسها، ففي فيلم “قماشتي المفضلة” للمخرجة السورية غايا جيجي، وقد عرض في مهرجان “كان” الأخير، نعثر على شخصية رجل عسكري من جيش النظام مثابر على ارتياد بيت دعارة، ولا تروق له الأمور إلا حين تروي له بنت الهوى قصة يوسف كما يشتهي، من دون أي تعديل في الحكاية.
على “يوتيوب” نجد أيضاً فيديو يعود للعام 2012 يحمل عنوان “أنا يوسف يا أبي، أنا بشار يا أبي”، ويستعرض صور الحكام العرب على وقع قصيدة محمود درويش “أنا يوسف يا أبي”، يغنيها مارسيل خليفة، بدءاً من مقطع يقول “عندما مرّ النسيم ولاعب شعري غاروا وثاروا.. فماذا صنعتُ لهم يا أبي؟ أنا يوسف يا أبي، يا أبي إخوتي لا يحبونني، لا يريدونني بينهم، يا أبي، يعتدون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام”.
لا تليق هذه الحكاية بسبعاوية الدم الفائتة، سنوات الرعب السبع، التي ذاق فيها السوريون الويلات.
نحسب أن أنصار النظام أنفسهم لن يقبلوا بها معادلاً لدأبهم في الذبح وإلقاء البراميل المتفجرة والتهجير. لن يتعرّف النظام إلى نفسه في هذه الحكاية الرخوة. لا بدّ من حكاية مخضبة بالدم. وحكاية يوسف ملأى بسنابل القمح المضيئة، ومنامات رخيّة، وشكوى ولد طيّع لأبيه.
“بروباغندا” ناعمة
الطريقة التي أعلن فيها نبأ مرض أسماء الأسد بسرطان الثدي (في صفحة “رئاسة الجمهورية العربية السورية” على فيسبوك) هي “بروباغندا” سياسية ناعمة، تذكّر ببدايات تسلّم بشار الأسد للسلطة، عندما نزل إلى الشوارع والمسارح ومحال الفلافل والأسواق، التقى الفنانين وأخذهم في جولات سياحية، طالب بنزع صوره من الشوارع وزجاج السيارات، فالصورة اختيرت بعناية، تكفي تلك الكلمة الكبيرة الظاهرة على غطاء السرير “العسكري”، التي تشير إلى اسم المشفى الذي تتلقى فيه الأسد بداية علاجها.
ليس مشفى “الشامي” إذاً، المعروف باقتصاره على النافذين، بدءاً من الرئيس، وكبار المقتدرين، ولا “مشفى الأسد الجامعي” الحديث، لا هو مشفى في باريس ولا في لندن، إنه المشفى العسكري، حيث يتداوى عموم الناس.
الصورة أقرب إلى دعاية لحملة انتخابية، لذلك ليس على أنصار النظام استغراب أن يصبح الأمر في قلب الجدل والتناحر السياسي، فنظامهم هو الذي وضع الصورة للاستثمار السياسي. وقد يكون حصل بالفعل على ما يريد، انظروا إلى التضامن الهائل من قبل الفنانين، غناءً (على الفور أطلق شادي أسود أغنية وفيديو كليب “ياسمينة الشام”)، وتغريداً، وانظروا عشرات الفنانين كيف غرّدوا، هذه مثلاً الممثلة شكران مرتجى تختصر الأمر في تغريدة: “الخبيث من صدر الوطن إلى صدر سيدته، كما يتعافى الوطن ستتعافين بنفس الصبر والتضحية والقوة”.
لن يوفر النظام أي فرصة، حتى لو كانت تفصيلاً إنسانياً، وخصوصياً إلى هذا الحدّ، إلا ويوظفها في خدمة بقائه وتعزيز سلطته. بل وأكثر، إنه يظهر هذه “اللحظة الإنسانية” هنا، ولا يتورع عن ارتكاب ألف جريمة وحشية في مكان آخر.
سامي كليب… محتجاً
أعلن الإعلامي اللبناني سامي كليب، أحد أبرز الموالين والمدافعين عن النظام السوري، أن مقابلة معه أجراها التلفزيون السوري منعت من البث.
قال، بعدما أجريت معه المقابلة في دمشق أثناء حضوره فعاليات معرض الكتاب “علمت الليلة أن أمراً جاء من مكانٍ ما لمنع بث الحلقة، وثمة من حاول القول بأن الشريط مضروب تقنياً، رغم وجود نسخة صحيحة جداً منه في مكان ما”.
لكن كليب لم يلبث أن وجّه شكراً لوزير الإعلام السوري، بعد أن قام الأخير بالاتصال به لتوضيح الأمر.
وبالفعل، جرى تالياً عرض المقابلة ضمن برنامج “إليك كتابي”، للحديث عن كتاب كليب، الذي جاء لتوقيعه، وقد احتفي به على أعلى المستويات: “خطاب الأسد من الإصلاح إلى الحرب”.
فما الذي يستدعي المنع والرقابة والشطب في حديث الممانع اللبناني البارز؟
في الحلقة لن تجد سوى الخطاب المنافق والمكرور ذاته، مع فارق أن المتحدث يدعي وصوله إلى تلك “الحقائق” بالتحليل العلمي، والمغامرة، وأنه جهدَ في الحصول على وثائق، وعمل على مدار سنتين، ليصل إلى الاستنتاج أن مؤامرة جرت على سوريا، وأن دمشق “قلب العروبة النابض”، وأن لا لبنان من دون سوريا، ولا سوريا من دون لبنان،.
يحاول كليب إثبات أن بشار الأسد رجل إصلاح، ويضرب مثلاً لذلك الفنان علي فرزات، الذي باح بخوفه من المخابرات عند نشر رسومه، فأتاح له بشار أن ينشر على هواه، بل وفتح له جريدة، لكن كليباً لا يكمل بقية الحكاية، أن جريدة فرزات سرعان ما أغلقت، وجرت مضايقته على الدوام، بل وأنه تعرّض للخطف مع بداية الثورة وضرب وكسرت أصابعه وألقي في العراء.
في آخر المقابلة نعثر على تلك الملاحظة التي أبداها كليب، والتي قد تكون سبباً في التردد في بث الحلقة. سألته المذيعة رأيه حول الكتب السياسية في معرض الكتاب، فقال “هل تستطيعين بث ما سأقول؟” (لاحظوا كم أن له خبرة ممتازة بالنظام الذي يدافع عنه).
وراح يتحدث عن أن هناك كتباً ممنوعة، وكتباً جرى تأخيرها بسبب إشكال في عناوينها، وأن دور نشر منعت كتبها، رغم أنها تستقتل في الدفاع عن سوريا.
وتمنى أخيراً لـ “سوريا الناهضة بعد الحرب” أن تكون “نموذجاً” يقوم على نافذتي الثقافة والإعلام.
إذاً فقد بثت الحلقة بعد تردد، واستطاع كليب أن يخوض “نضالاً” مجدياً: احتجَّ، ونشرَ، فجرت الاستجابة والبث. ولكن ماذا لو كان المعترض من أبناء البلد، الذين ليس لهم هذه العلاقة مع رأس النظام، وليس له هذه الشهرة، ولا هو معروف بخدماته الجليلة في الدفاع عن النظام؟ ثم هل تتوقع أن يغير النظام رأيه بالكتب الممنوعة؟
وبالمناسبة، من الآن ستكون هذه هي حدود النضال ضد النظام في “سوريا النموذج”: الاحتجاج على كتاب ممنوع، الاعتراض على سلوك وزير، أو مدير في مؤسسة، أو احتجاج على مسلسل تلفزيوني!
كاتب فلسطيني سوري