لنفقد الأمل من أدونيس … راشد عيسى
من البديهي أن يصاحب سقوط نظام المخلوع بشار الأسد انكشاف ارتكابات لا حصر لها، خصوصاً مع فتح السجون وتحرير السجناء وتدفق قصصهم المذهلة، مع أن ذلك جاء أفظع من كل ما في رؤوسنا وتصوراتنا، أفظع مما نعرفه عبر قراءات السنين. حقائق لم يدركها بعد أدب السجون، لا “القوقعة”، ولا “لهذا أخفينا الموتى”، أو “شرق المتوسط”، ولا سواها.
كمتلقٍ طبيعي قد تكون واحداً من اثنين، أو كلاهما، سيطير عقلُك من الفرح بسقوط مجرم متوحش قد لا يبزّه أحد سوى هتلر، وبات مسجلاً باسمه عدد هائل من جرائم لا يمكن إنكارها، أو أن حجم الجريمة سيثير لديك الاشمئزاز والتقزّز من هذا النظام وكل متعلّقاته.
لكن أدونيس، الشاعر السوري العابر للأجيال، لم يختر أياً من الحالتين، لقد ابتكر، بتذاكيه المعهود، جواباً من خارج الصندوق: “المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع”. فدائماً أدونيس مشغول بمهمة أخرى، فهو من شعراء المستقبل، ينتظر قارئاً قابعاً في المستقبل، وفي السياسة كذلك، يفكر فوراً في المهمة التالية، لن يترك لنفسه العنان أبداً للانشغال باللحظة البائدة، ربما كان أيضاً أثقل من الفرح أو الحزن.
وهو بالطبع لن يقول إنه مع النظام، فهو معارض منذ الأزل، بطبعه معارض، فإنْ قامت ثورة في بلده سيسأل لماذا من الجوامع، وسيتوجه برسالة ودودة لرئيسٍ يصفه بالمنتخب، وسينأى بنفسه طوال 13 عاماً عما يجري في سوريته القديمة، هذا إن لم يكن لسان حاله، مع كل خراب جديد، وكسائر الموالين أو الرماديين ومن في حكمهم: “ألم أقل لكم!”.
تحرير المرأة
لقد وصله النبأ إذاً، فلم يعن له شيئاً، فالمسألة “ليست تغيير النظام”، هذا التفصيل، تفصيلُ هربِ الرئيس وانهيار نظامٍ جَثَمَ على صدور الناس أكثر من خمسة عقود حتى بدا أنه لن ينزاح أبداً، لم يعنِه كثيراً، هذا الحدث الأقرب إلى زلزال كونيّ، جاء بتأثير الدومينو، من الحرب الأوكرانية، إلى غزة، ولبنان وإيران، وسوريا، وسيكون له أثر الدومينو أيضاً بطريق معاكس، وربما أبعد، لن يعني له شيئاً، بدا كأنه لم يسمع الدويّ أصلاً.
ثمانية أيام مرت على هروب رئيسه “المنتخب”، ولم يقل الشاعر شيئاً بعد، فقط التُقط في مؤتمر صحافي إثر اصطياده جائزة جديدة، فقال على هامش حديث الجوائز، عندما سئل، إنه لا يجب الاكتفاء بتغيير النظام السياسي، موضحاً أن التغيير المطلوب هو “تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي”.
وكي يعفي نفسه من موقف واضح، وكمحاولة للتنصل، هو الذي كان دائماً في موقع “أبو العرّيف” إلا حينما يتعلق الأمر بمواقف لها أثمان، سيتواضع ويقول: “أودّ أولاً أن أبدي تحفّظات.. لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق”.
ويتابع: “لقد كنت ضدّ، كنت دوماً ضدّ هذا النظام”، متسائلاً عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن.
وما دامت فصائل إسلامية على رأس تحرير المدن السورية، ويبدو أنها ستتزعم المرحلة الانتقالية، لا بد أن نتوقع من الشاعر السوري إعادة نغمة الخروج من الجوامع، ولن تنفع معه أي تطمينات من قبل المعارضة، حتى وإن مرت الأيام الصعبة التي كانت تخشاها مخيلاتُ الجميع وتحسب لها حساباً، فلا مجازر بحق شركاء الوطن، أو رهائن النظام، ولا انتقام طائفي، ولا أي نوع من الاقتتال، مع حذر شديد من تكرار النموذج العراقي سواء لناحية عدم حل الجيش، أو “البعث”، إلى جانب تسويات مع عناصر وضباط الجيش، تتضمن تسجيل أسمائهم، ثم الانصراف إلى شؤونهم وحسب، حتى من دون أي تحقيق.
حسب أدونيس، فإن “ثورة علمانية لا يمكن تحقيقها عبر أشخاص يخرجون من المساجد”، و”أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع”.
مصانع الكبتاغون “العلمانية”
ويبدو أن أدونيس قرّرَ، في سنته الرابعة والتسعين، أن يعمم المعركة لتشمل العرب برمتهم، أو أبعد، وهو على استعداد ليصيب في تسديداته الأخيرة الكون برمته، كي لا يعترف بأن أحداً في بلده قادر على التغيير، والحياة خارج سلطة عائلة الأسد: “العرب، ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب- لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئاً. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي”.
لا نعرف كيف في إمكان أدونيس أن يغيّر المجتمع، وهل ذلك بالإمكان ما دامت الخطوة الأولى لم تتحقق، أي إزاحة عائلة مجرمة جعلتْ من البلد مجرد سجون ترعب الكون، ومصانع توزع الكبتاغون في أرجاء الأرض، هل كان بإمكان مصانع الكبتاغون “العلمانية” هذه أن تغيّر المجتمع على نحو ما يَرومُ الشاعر المستقبلي!
لو تحدث أيٌّ كان عن ضرورة “تغيير المجتمع”، لفهمنا منه أنه يقصد مجموع تلك الآليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقانونية التي تتضافر لتأخذ المجتمع إلى حال أفضل، لكن فقط مع أدونيس، وتساوقاً مع طروحاته بخصوص بلده ومواطنيه، نفهم أنه يقصد بتغيير المجتمع، أن تنقل، والأصح تقتلع، المجتمع ككتلة واحدة بعيداً عن سوريا، وتحلّ محلّه مجتمعاً آخر. هذه ربما خلاصة الاجتهاد الأدونيسي، التي لا يرضى بديلاً عنها.
“إذا ما تحدثنا بعمق” لا بدّ من القول إنه قد آن الأوان لننفض أيدينا من أدونيس، لنفقد الأمل منه.
* كاتب من أسرة “القدس العربي”