
“سبحت مبتعداً عن القارب وجثث المهاجرين تتساقط بجانبي في الماء”
منذ حوالي عامين غادر الشاب السوري غياد بلده هربا من الخدمة العسكرية، وقرر أخيرا اللجوء إلى أوروبا عبر ليبيا، لكنه خاض رحلة عبور راح ضحيتها مئات المهاجرين في شهر حزيران/يونيو الماضي. نجا الشاب من الغرق ونقلته السلطات إلى اليونان، لكنه يستذكر لحظات كان يصارع فيها الحياة، “كنت أسبح بسرعة والمهاجرون يتساقطون بجانبي.. لم أتجرأ على النظر خلفي”.
“في تموز/يوليو 2021، غادرتُ سوريا إلى لبنان هرباً من الخدمة العسكرية، ومن هناك إلى كردستان العراق، حتى وصلت إلى بغداد.
عملت في العاصمة العراقية لعام ونصف، في مطعم شاورما، حتى جمعت المبلغ اللازم للهجرة إلى أوروبا، فلطالما حلمت بالعيش في هولندا، خاصة مع تأزم الوضع في سوريا.
“منذ وصول السوري إلى بنغازي، يشعر بأنه غير مرحب به”
تواصلت مع عدة أشخاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي، للبحث عن مهرب للوصول إلى أوروبا، وفي نهاية المطاف، اقتنعت بأن أفضل طريقة هي على متن قارب صيد كبيرة (جرار)، من شرق ليبيا.
قام شخص سوري يقيم في طبرق بالتواصل معي، واتفقنا على دفع مبلغ 6000 دولار، تشمل الموافقة الأمنية لدخول ليبيا، والإقامة حتى موعد انطلاق القارب، والرحلة عبر البحر حتى إيطاليا.
وصلت مطار بنغازي في 7 أيار/مايو، ودفعت مبلغ 1500 يورو بمجرد وصولي. ثم بقيت في شقة في مدينة طبرق، رفقة 12 مهاجراً آخرين لأكثر من شهر. كان لدى هذا المهرب ثلاث شقق أخرى، فيها عائلات عراقية وسورية.
منذ وصول السوري إلى بنغازي، يشعر بأنه غير مرحب به، وأنه سيتم توقيفه في أي لحظة. ويتوجب عليه أن يدفع المال والرشاوى للجميع لقاء شراء الطعام والتنقل.
اتفقنا في البداية على رهن ما تبقى من المبلغ (4500 يورو) في مكتب، على أساس استرجاعهم في حالة فشل محاولة الهجرة. لكن المهرب غيّر رأيه في آخر لحظة، وقرر أن يضع المال في المكتب، على أن يكون الرهن بينه وبين المهرب الليبي صاحب القارب.
واتفقنا أيضاً على أن نستقل قارب صيد كبير (جرار) بطول 20-23 متراً، وألا يتجاوز عدد المهاجرين عليه من 450-500 شخص. لكن ما حدث كان مختلفاً.
قاموا بتكديسنا كالأغنام
في 8 حزيران/يونيو، نقلتني سيارة رفقة أربعة مهاجرين آخرين ممن كانوا معي في الشقة، وذهبنا إلى مكان صحراوي تجمع فيه عشرات المهاجرين. وهناك وصلت شاحنة وفي خلفها ثلاجة، وشرع المهربون بدفعنا إلى داخلها، تم تكديسنا كالأغنام.
بعد ساعتين من القيادة في ظروف خانقة، وصلنا إلى واد على شاطئ البحر، حيث احتشد مئات المهاجرين الذين وصلوا إلى هناك بمساعدة عدة مهربين. وهناك التقينا بالمهربين المصريين الذين شرعوا بنقلنا في قوارب صغيرة إلى “الجرار”، في مجموعات لا تتعدى الـ50 شخصاً.
دفعنا بعض المال إلى أحدهم حتى لا يؤخر اختيارنا، وصعدنا إلى القارب الصغير في رحلة لـ10 دقائق. وعند وصولنا إلى الجرار، الساعة 1 ونصف ليلاً، وجدنا أنه أصغر مما توقعنا (17 متراً)، وتم إنزالنا إلى قاع السفينة، والذي يسمونه “البرّاد”. لكننا لم نحتمل الجو الخانق هناك، ودفعنا المال مجدداً إلى أحد المهربين، الذي نقلنا إلى سطح السفينة.
استمرت عمليات ملء القارب بالمهاجرين حتى الساعة الخامسة صباحاً، وسط ضرب وإهانات من قبل المهربين. وفي تمام الساعة الخامسة والربع، انطلق القارب.

الوضع تعقد بداية من اليوم الرابع
أول يومين كانا مقبولين إلى حد ما، القارب كان يبحر بسرعة، وعلى الرغم من بعض الترنح يميناً ويساراً بسبب حمولته، كان الوضع تحت السيطرة.
في اليوم الثالث، بدأت المياه بالنفاد وتم تخفيف سرعة القارب لإراحة محركه. وقال المهربون لنا إن قبطان السفينة غير وجهتها لتجنب خفر السواحل الليبي، ولذلك استغرقنا ثلاثة أيام لنخرج من المياه الإقليمية الليبية.
أما في اليوم الرابع، بات الوضع معقداً، خاصة عندما عرفنا بأن القارب قد تاه وسط البحر، كان القبطان يبحر في كل اتجاه، وموقع الشمس يتغير بشكل مستمر من اليمين إلى اليسار. وزاد الوضع تعقيداً وفاة شخصين.
لكن المهربين كانوا يخففون من وطأة الوضع عبر الكذب علينا، قائلين إننا على بعد ست ساعات من إيطاليا، ثم ساعتين، وهكذا دواليك. كل هذا وأنا لم أشرب لأكثر من يومين.
وفي اليوم الخامس، تأزم الوضع بعد وفاة سبعة مهاجرين. وبدأنا التواصل لطلب المساعدة، حيث أمر المهربون امرأة بالتحدث مع منصة “هاتف الإنذار” والإبلاغ عن موقعنا.
وصلت طائرة حربية في بداية الأمر، تبعتها طائرة مروحية قامت بتصويرنا. ثم عرفنا عبر الاتصالات أننا في اليونان وليس إيطاليا. في تلك اللحظة، لم نكن نأبه بالوجهة، كل ما أردناه هو الوصول إلى بر الأمان.
قامت سفينتا شحن بالتوقف وتقديم بعض المساعدات لنا، كالطعام والماء، لكن الكمية كانت محدودة جداً مقارنة بأعداد المهاجرين على القارب.
وفي المساء، وصل زورق تابع لخفر السواحل اليوناني، وأمرنا بالإبحار خلفهم، وهذا ما حدث. لكن بعد ساعتين، تعطل محرك قاربنا، فاقترب منا الزورق ورمى حبلا كي نربط قاربنا لسحبنا، لكن الحبل انقطع في المرة الأولى. وفي المرة الثانية، رُبط الحبل في الحافة اليمنى للقارب، أينما كنت أقف.
وما أن انطلق الزورق ليسحبنا، انقطع الحبل مرة أخرى، ومال القارب على الجانب الآخر، وما إن مالت جهتي من القارب، ولاحظت أن الماء وصل قدماي، قفزت في البحر.
كل ما أذكره عن تلك اللحظات، هو أنني سبحت دون توقف بعيدا عن القارب، كنت أعلم أنني إذا غرقت، فسيكون ذلك بسبب المهاجرين الذين لا يجيدون السباحة، والذين سيتشبثون بي. كنت أسبح بسرعة، والمهاجرون يتساقطون بجانبي داخل الماء، لم أستطع مساعدة أحد، ولم أتجرأ على النظر خلفي.
بعد أن قطعت مسافة لا بأس بها، نظرت خلفي، لقد كان المشهد صادما. كان القارب منقلباً على ظهره، والناس يحاولون تسلقه ظانين أنه سيبقى طافياً. رأيت جثثاً تطفو في كل اتجاه. لن أنسى صوت صراخ الناس في تلك اللحظة، ومشهد زورق خفر السواحل اليوناني وهو يشاهد ما يحدث دون أن يحرك ساكناً.
مع الوقت، غرق القارب بأكمله واقترب زورقان صغيران تابعان لخفر السواحل وبدءا بالبحث عن ناجين، مستخدمين مصابيحهم. في البداية ترددت في أن أشير إلى مكاني، اعتقدت أنهم سيقومون بإغراقنا، لكن في النهاية رفعت يدي وبدأت بالصراخ، إلى أن عثروا علي. كان على متن القارب ثلاثة مهاجرين فقط، قال لي أحدهم أنه نجا لأنه تشبث بجثة طافية.
سعة كل زورق من هذين الزورقين لا تتجاوز الـ10 أشخاص، لذلك فمن الطبيعي أن عدد الناجين كان محدوداً جداً.
وصلنا إلى زورق خفر السواحل الكبير، وبعد أكثر من ساعتين في البحر تم نقلنا إلى يخت سياحي، قام بدوره بإنزالنا في ميناء كالاماتا. وهناك تم وضعنا في مخزن كبير وتم استجوابنا، قبل أن نطلب اللجوء.
تم قبول طلب لجوئي في اليونان، سأبقى هنا إلى أن أستطيع الذهاب إلى دولة أوروبية أخرى، فالآن لا أملك المال الكافي للسفر، وسأبقى عالقاً في اليونان مع كل هذه الذكريات الصادمة.


