على حساب النظام السوري وإيران … روسيا تُقسم كعكة حلب
منهل باريش
دخلت سوريا في منعطف جديد على المستويين السياسي والأمني ، فجر الأربعاء الماضي مع إطلاق «هيئة تحرير الشام» وفصائل المعارضة السورية معركة «ردع العدوان» وبلوغها ظهر الجمعة مدينة حلب، بالتزامن مع انهيار دراماتيكي وانسحابات وهزائم متتالية في معاقل حزب الله والميليشيات الإيرانية المساندة للنظام السوري في نقاط رئيسية مثل سراقب والحاضر والعيس.
ولا يمكن قراءة الوقائع المتسارعة على الأرض إلا بالوقوف عند «الانهيار السريع» للبلدات والقرى والمراكز العسكرية والأمنية على امتداد ذلك الشريط البالغ أكثر من 110 كلم وصولاً إلى وسط حلب، وما تعنيه من أهمية استراتيجية.
ترتبط المعركة بالمتغيرات الجيوسياسية التي تشكلت عقب السابع من اكتوبر وحرب غزة، وتقليم أظفار إيران كهدف إسرائيلي معلن، والذي انعكس من خلال توسيع الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله اللبناني ومواقعه في سوريا واستهداف المعابر تحت شعار «قطع خطوط الامداد» إضافة لقصف عدد من مقرات الميليشيات الإيرانية في البوكمال وتدمر والسفيرة شرق حلب ومنطقة السيدة زينب جنوب دمشق.
وفي حين يُعتبر فصل النظام عن إيران هدفا غير معلن تدعمه وتسعى إليه دول غربية وعربية عدة، لتطبيع العلاقات، إلا أن هذا المسعى فشل بوضوح. وسريعاً ما انعكس هذا الفشل برودا واستياء في العلاقة مع الدول العربية التي سعت لتعويم الرئيس السوري بشار الأسد وإعادة مقعده في جامعة الدول العربية واستئناف العلاقات الدبلوماسية معه وتعيين السفراء.
ناور الأسد كثيراً وأرسل إشارات متفاوتة ولكنه رفض الإعلان الصريح عن فك الارتباط بـ«المحور» رغم مساعي «الوسطاء العرب». كذلك رفض التجاوب مع المقترحات الروسية الراغبة في «كسر الجليد» بينه وبين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان. فقد استمر الأخير بإبداء رغبته بلقاء الأسد ومد اليد له، فيما تحفظ الأسد شخصياً عن اللقاء واصفا الدعوات التركية بأنها «بهلوانيات سياسية» ورفضت وزارة الخارجية تلك «المناورات» من خلال بيان رسمي أيضا.
كل تلك المتغيرات، لم تحفز بشار الأسد على المبادرة وإعادة التموضع، فهو يدرك أن إيران هي الدولة الوحيدة التي وقفت إلى جانبه منذ يوم أزمته الأولى عام 2011 ودفعت بحزب الله اللبناني وعشرات آلاف المقاتلين الشيعة لمساندته خلال 13 عاماً.
كما بنت طهران شبكات مصالح سياسية واقتصادية رسمية وشبه رسمية وأخرى اجتماعية طوقت سلطته بطريقة لا يمكن انهاءها بعشية وضحاها. وهذا ما جعله لا يستجيب للمبادرات الروسية والعربية المتعلقة بقضية الحد من النفوذ الإيراني.
ما يحدث في شمال #سوريا باختصار هو أن أهلها يستردون بلادهم ويحررونها من المغتصبين #حلب_الجديدة #حلب_تتحرر pic.twitter.com/BRggNJ3Nht
— A Mansour أحمد منصور (@amansouraja) November 30, 2024
مطالب أنقرة من دمشق
في ما يخص المطالب التركية من النظام، يمكن اجمالها بأربعة مطالب، كررها المسؤولون الأتراك في الاجتماعات الثنائية مع نظرائهم الروس خلف الأبواب المغلقة في أستانة أو على هوامش اللقاءات الدبلوماسية مع دول الاتحاد الأوروبي، وهي: العودة إلى طاولة المفاوضات السياسية وتطبيق القرار 2254 من خلال إحياء اجتماعات اللجنة الدستورية. إضافة إلى المساعدة في حل مشكلة اللاجئين من خلال إحداث بيئة آمنة لهم في الشمال تشارك به دول الاتحاد الأوروبي، ألمح الإداريون الأتراك إلى امكانية أن تكون حلب هي الوجهة المناسبة لذلك باعتبارها أكبر المدن في الشمال وبامكانها استيعاب أكثر من مليوني مهاجر منها. وهذا اقتراح يحتاج إلى خلق واقع أمني هجين، جرت مناقشته بين المبعوث الدولي ديمستورا وأطراف من الإدارة المحلية المعارضة في حلب وآخرين في الائتلاف الوطني المعارض، بحيث يمنع التهجير، وكان يقول بدخول مؤسسات الدولة السورية والسماح لوزارة الداخلية بفتح مخافر دون دخول المخابرات السورية والقوى الأمنية أو الجيش إلى أحياء حلب الشرقية، وانتشار الشرطة العسكرية الروسية كطرف ضامن، لكن ذلك المقترح لاقى رفضا ومجابهة عنيفة من المعارضة.
وبالطبع فإن هذا المقترح يلاقي أذانا صاغية في دول أوروبية عدة، ترى في حلب تحت النفوذ التركي فرصة لوقف عملية الهجرة مرة واحدة وإلى الأبد.
ثالثا، تعتبر أنقرة أن القضاء على الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني، لا يمكن ان يحصل بدون اتفاق مع النظام والتعاون معه ضد المقاتلين الأكراد.
وتدرك تركيا باعتبارها دولة في حلف شمال الأطلسي أنها لا يمكن ان تخرج عن إجماع الدول الكبرى ورغبتها بإبعاد إيران إلى خارج الحدود السورية وقطع طرق الإمداد لحزب الله.
نظام متكلّس وجيش منهك
يضاف إلى ما ذكر أعلاه، تكلس النظام وتفسخه داخليا وتغوله على طبقة الصناعيين المتبقين في سوريا، وهو ما أدى إلى فقدانه الأدوات والوسائل التي تمكنه من الاستدارة وإعادة التموضع بعد تصاعد الهجمات ضد حزب الله اللبناني في سوريا وباقي الميليشيات الشيعية المحسوبة عليه وانتقال الصراع إلى صراع مباشر بين تل أبيب وطهران.
بعيدا عن الاتفاق وحدوده، فان هناك عدة عوامل تسببت في الانهيار السريع جدا، أبرزها نقص الموارد البشرية في جيش النظام، فمن المعروف أن الجيش الذي يعتمد على الخدمة الالزامية، احتفظ بدورات التجنيد واستدعى آخرين للخدمة الاحتياطية، واستمرت فترة الخدمة لكثير من هؤلاء لمدة طويلة كادت تبلغ العشر سنوات، وهذا ما أبقى البنية الرئيسية للجيش متماسكة رغم كل السلبيات الحاصلة في الموسسة العسكرية والظواهر الناشئة كالميليشيات المحلية الرديفة.
ويعتبر اتفاق اردوغان ـ بوتين في موسكو حول إدلب في آذار (مارس) 2020 نقطة تحول سمحت بتنفيذ تغييرات على مستوى الخدمة الالزامية، كما يشير الباحث المساعد محسن المصطفى، المتخصص في العلاقات العسكرية بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية. ويضيف في حديث لـ«القدس العربي» أن الفترة الممتدة منذ منتصف عام 2023 وحتى منتصف 2024 شهدت إصدارا لـ«عدة أوامر إدارية تقضي بإنهاء الاحتفاظ بعدد من الفئات التي تؤدي الخدمة الاحتياطية، وذلك قبل أن يتم الحديث لأول مرة وبشكل رسمي عن خطة تتضمن التحول إلى تشكيل جيش احترافي متطور نوعي».
وتسبب انتشار جيش النظام على مساحات واسعة من العام 2018 وصولا للعام 2020 بعدم مقدرته على الحشد بكفاءة عالية، خصوصا وأن نقاط الانتشار كانت جديدة بهدف فرض واقع أمني يراعي الأوضاع الجديدة.
عقدة سراقب
حول جبهة حلب الغربية، شكل حزب الله والميليشيات الإيرانية القوة الضاربة في هجوم 2020 خصوصا في معركة سراقب، حيث اعتمد النظام على قوة الرضوان المعروفة للسيطرة على البلدة الاستراتيجية بعد فشل قواته باقتحامها وتثبيت نقاط يتحصن بها المقاتلون. ومن ذلك اليوم لما قبل الأربعاء، تعتبر تلك المناطق مركز الثقل للميليشيات الإيرانية والتي اتخذت من بلدات الحاضر والعيس مناطق نشاط عسكري وديني منذ العام 2012. وهي البلدة التي زارها قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني عشرات المرات وكانت مقر إقامة الجنرال حسين همذاني، وبالقرب منها قتل الجنرال الإيراني كيومرث هاشمي، يوم الخميس، في عملية اغتيال ما زالت تفاصيلها غير واضحة، رغم أن نشطاء معارضين تداولوا خبر تسلل عناصر من هيئة تحرير الشام قبل أيام عديدة إلى المنطقة وهم من قاموا بالهجوم الذي أدى إلى مقتلهم مع هاشمي وبعض مرافقيه المحليين.
والجدير بالذكر، أن فصائل المعارضة السورية فشلت ليومين متتالين بتحقيق خرق باتجاه سراقب من الناحية الجنوبية، حيث استولت على قرية جوباس الملاصقة لها بضع ساعات وعادت وانسحبت منها بسب تمركز حزب الله اللبناني في صوامع الحبوب جنوب غرب المدينة. وهو ما دفع إلى تطوير محاور هجوم جديدة من أجل تجنب الخط الدفاعي المحصن لمقاتلي حزب الله في محيط سراقب. ومع توسع محاور الهجوم وانسحابات قوات النظام كان مقاتلو الحزب آخر المنسحبين ولاحقتهم الطائرات المسيرة لفصائل المعارضة على طريق أبو الظهور شرقي إدلب.
وتعتبر الحرب الإسرائيلية ضد حزب الله من الأسباب التي حالت دون قدرة الحزب على الحشد وإرسال التعزيزات، خصوصا بعد انكشافه الأمني وتوقع استمرار النشاط الإسرائيلي ضد خطوط الإمداد له على كامل الجغرافية السورية.
ما يعزز الشكوك في السقوط السريع للمدينة هو عدم وصول أي رتل من أرتال النظام العسكرية التي ادعى إرسالها للشمال السوري، رغم إعلان إعلاميي النظام العسكريين خبر وصول اللواء سهيل الحسن قائد القوات الخاصة في سوريا، واللواء صالح العبد الله قائد الفرقة 25 – مهام خاصة والعميد غياث دلة القيادي البارز في الفرقة الرابعة والرجل المقرب من قائد الفرقة اللواء ماهر الأسد. على العكس من ذلك فإن مدينة حلب لم تشهد اشتباكات نهائيا بين فصائل المعارضة المهاجمة وقوات الأمن المتمركزة فيها.
رعاية روسية للمقاتلين الأكراد
في حين كانت أرتال الفصائل العسكرية تدخل مدنة حلب، الجمعة منعت موسكو أي تحرك في ريف حلب الشمالي ضد المقاتلين الأكراد فقصفت معسكرات فصائل الجيش الوطني الموالي لتركيا ثلاث مرات، ما أدى لمقتل وجرح عدد من المقاتلين.
وبعد إصدار أوامر من جيش النظام للميليشيات بإخلاء نبل والزهراء بريف حلب الشمالي الجمعة، انتشر مقاتلو وحدات حماية الشعب الكردية في البلدة وأعلنوا سيطرتهم عليها، بطلب من الميليشيات الشيعية ليبقوا تحت حمايتها.
في حين دفعت قوات سوريا الديمقراطية «قسد» بآلاف المقاتلين من مناطق سيطرتها في الطبقة إلى مناطق ريف حلب الشرقي والمحطة الحرارية ومطار حلب الدولي، وبسطوا سيطرتهم على المنطقة الصناعية في الشيخ نجار بعد تسليمها من قبل قوات النظام السوري. ونشر إعلاميون مقربون من «قسد» أشرطة مصورة للحظة انتشارهم في المطار وتوجهت أرتال كبيرة إلى المنطقة الصناعية في الشيخ نجار شمال حلب وحي هنانو، إضافة إلى التقدم إلى الأحياء الشرقية، ما يعني أن «قسد» حصلت على حصة كبيرة من كعكة حلب برعاية روسية بخلاف الرغبة التركية، وهذا يؤكد فرضية الرعاية الروسية لمخططات الأحداث في شمال سوريا، حيث تحافظ على بقاء المقاتلين الأكراد بجوار الحدود التركية، بل أكثر من ذلك فقد أعطتهم جزءا كبيرا من المدينة بما فيها المدينة الصناعية في الشيخ نجار التي كان انشاؤها فاتحة العلاقات بين اردوغان والأسد في العقد الأول من هذا القرن.