علي فرزات :رسمت كل الديكتاتوريين في واحد لأنهم متشابهون
علي فرزات أشهر من أن يُعرّف. فهو الفنان الذي لديه القدرة على تشكيل الوقائع بهيئة لوحات، وطرح الأسئلة بصورة شخصيات. يكثف القضايا الكبيرة بخطوطه السوداء، ويمارس تفتيتاً للواقع حتى يصل جوهر الأشياء فيعرّيها بأقل قدر من الخطوط. هو أحد أبرز فناني الكاريكاتير، يجنح نحو السخرية المريرة، وقد حاول إرساء ونشر الصحافة الساخرة، فأصدر أسبوعية “الدومري” التي لم يحتملها النظام السوري وأوقفها، مثلما لم يحتمل رسوم فرزات المنحاز إلى الناس في الثورة السورية.
* ثمة محطات رئيسة طبعت مسيرتك، منها إغلاق صحيفة الدومري الأسبوعية 2003، ثم قيام الثورة السورية 2011، وحادث الاعتداء عليك في 25 أغسطس/ آب 2011 في وسط دمشق. أين أنت من كل هذا، ومن أين تطلّ اليوم على الثورة؟
أطل على المشهد انطلاقًا من انسجام الفنان مع نفسه. فنان يفكر كما يعبّر تمامًا. ووفقًا لهذا المبدأ ووفاقًا معه، حاولت إنشاء صحيفة. عندما أصدرتها لم يعجب الأمر السلطة فتم إغلاقها بقرار حكومي، لكني أنشأت بعدها موقعا على شبكة الإنترنت اسمه “موقع علي فرزات”، جعل النظام “يترحّم” على أيام الجريدة. ذلك أن السقف في الموقع صار أعلى، رغم أنني كنت لا أزال أعيش داخل البلد. وقد استطاع الموقع أن يجذب أعداداً هائلة من المتابعين. كنت أزيد جرعة النقد، وكانت الناس تندهش للأمر، إذ تناولت بالنقد رأس السلطة ورئيس الوزراء وزمرة المافيات التي تستبد بالناس. وأظنّ أن هذا الأمر، شكّل ظاهرة فريدة، غير مسبوقة في سورية أدّت، بنسبة ما، إلى كسر بعض حواجز الخوف عند الناس، فبدأوا يتناولون رجالات الدولة بالنقد والسخرية في مجالسهم الخاصة. ولقد ساهم ذلك في تحفيزهم في ما بعد، ليكتبوا على صفحات التواصل الاجتماعي وفي الصحف بحرية أكبر. وصلتني عدة تهديدات جراء ذلك، وبشكل خاصّ حين تناولت الرئيس السوري بشار الأسد من خلال ستة أو سبعة رسوم، منها اللوحة التي يظهر فيها وقد حزم أمتعته على عجل، ليلحق بسيارة القذافي المسرعة. وقد كان هذا الكاريكاتير بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير: كنت قد خَرجتُ من مكتبي في الخامسة صباحًا فرأيت سيارة بيضاء زجاجها داكن أو “مفيّم”، لحِقَتْ بي حتى وصلت إلى ساحة الأمويين، وهي مكان يعدّ مركزًا أمنيًا للنظام بامتياز. نزل العناصر من السيارة وهجموا عليّ وكسروا سيارتي وتم الاعتداء عليّ بالضرب وكسروا أصابع يدي وقالوا لي “حتى ما تتطاول على أسيادك”، وقاموا أيضًا بشتمي. بالطبع لقد غدت هذه الحادثة معروفة، وأدّت إلى تعاطف كبير. لمستُ حبًا من الناس، وتعاطفًا جارفًا بعد حادث الضرب هذا. لم يكن هذا التعاطف محلياً بل تلقيت مساندة عالمية كان لها دور في إحجام النظام عن المضي بعيداً في إيذائي، ربما وصولاً إلى محاولة قتلي. هؤلاء الناس هم رصيدي، وأنا أنتمي إليهم. فمن همومهم ومعاناتهم أستمدّ مواضيعي وشخصياتي. والفن بالنسبة لي ليس حرفة أو مهنة فحسب، إنما سلوك وأسلوب حياة. وهذه العلاقة تبدّت حتى في رسوماتي، لذلك يشاركني الناس أفكاري وشخصيات لوحاتي، حيث نخلق معًا تفاعلاً حتى على صفحات التواصل الاجتماعي، فأنا لا أستطيع أن أكون كمن يرسم في صحراء، حيث لا أحد.
* بين تأسيس جريدة ساخرة ووجود رسام كاريكاتير محترف، ما العلاقة بين الرسم الساخر والصحافة الساخرة؟
العلاقة بينهما وطيدة. يعدّ الفن الساخر من أكثر الفنون تعبيراً عن الواقع، خاصة عندما يعتبر مشاكل الناس همّاً يومياً، فالكتابة الجادة التي تستخدم عبارات صعبة ومعلّبة وممجوجة، يملّها الناس. بينما تحرّك الصورة الساخرة مشاعرهم بفاعلية أكبر وتخدم الفكرة بسلاسة، وتؤدّي إلى الانتقاص من قيمة الصنم المسمى “ديكتاتورًا” في ضمائرهم. بالإضافة إلى أن السخرية سلاح ماضٍ يفتّت مشاعر الديكتاتور، فيستفزّه. لذلك يمكن تلمُّس مواقف رجال الأمن المتطرفة حيال من يسخر من سيدهم. ولقد أنشأت جريدة ساخرة، هي الدومري، لأستوعب أكبر قدر ممكن من المتابعين. كانت الدومري عبارة عن نادٍ للجميع، تضمّ الكتّاب والرسّامين والشعراء والفنانيين. ومنها انطلقنا إلى الشارع الذي تؤثر فيه الكلمة الساخرة. ولأن الشخصية الشرقية تتربى عموماً على أنها كاملة ولا تقبل نقصًا ولا انتقاصًا، لذلك فإنك عندما تسخر منها بطريقة مناسبة، وتقلّل من قيمتها، وخاصة أننا نتحدث عن شخصية بحجم رئيس الجمهورية، يكون الأمر جذاباً ومؤثراً وذا فاعلية مضاعفة.
* تتألف بعض رسومك في أحيان كثيرة من أكثر من كادر واحد أو لوحة واحدة، لكأنها سلسلة تنشد معنى بعينه. هل تحاول من خلال ذلك كتابة دراما كوميدية بالرسم؟
هذا جزء من أسلوب الفن الساخر، وكأنه فيلم “أنميشن”، أي سلسلة مصورة، لكن بطريقة تعبير ساخرة. وغالبًا ما تتحوّل هذه السلاسل إلى فيلم. أحيانًا لا تكتمل الفكرة إلا بخمس أو ست صور. لعلّي أستخدم الصورة الأقرب إلى الناس والأكثر فعالية وتأثيرًا. لكن، في بعض الأحيان، تفرض عليك الفكرة الإطالة، لتحصل على قدر أعلى من التأمّل والتأثير في الناس، ومن ثم نيل إعجابهم.
* هل تفكّر وتصمّم رسوماتك، أم أنك تترك الإلهام يقودك؟ أيحدث مثلًا أن ينحاز قلمك أو ريشتك إلى شخصية معينة، فيرسمها بتلقائية من دون أن تتدخّل “الذات المبدعة” بذلك؟
إن أي عمل لا يخرج عفو الخاطر ولا تلقائيًا. إنما هناك فكرة احتاجت إلى ساعات أو أيام من التأمّل لتأليف سيناريو خاص بها. على سبيل المثال، فإن أي حادث صادم، قوي، مفجع سواءٌ أكان سياسيًا أم اجتماعيًا، يستحيل أن نستطيع التعبير عنه في اللحظة نفسها، لأن المشاعر والعواطف يمكن أن تتدخل فيه بشكل خاطئ أو منفعل أو متسرّع، فتسبق العاطفة فيه التفكير، وتكون النتيجة أن الرسمة أو اللوحة تخرج مرتجلة ومباشرة، لذلك لا بدّ من التأني والتوقف قبل إخراج عمل ساخر، وذلك بغية “إعادة إنتاجه” حتى يخرج أكثر نضوجاً.
* وما الذي يحفزك ويشحذ إلهامك، أهي سهولة رسم شخصية ما، أم القدرة على إخراج الموضوع أو “إعادة إنتاجه”؟ ما العلاقة بين تقنية الرسم نفسها، وطريقة معالجة الموضوع؟
لا تهمني الشخصية، ولا أربط رسوماتي بشخص بعينه، إذ ربما يذهب، فتذهب الأفكار معه. لعلّي أحاول تجسيد حالات تنطبق على كل زمان ومكان. من الضروري أن تكون هناك رسالة واضحة ومهمة، وأن يُعبّر عنها الشكل بالصيغة الأنسب. لأن الربط بين الشكل والمضمون، قضية لا تقبل مساومة أصلا. بيد أنّي أعطي المضمون أهمية بنسبة 75%، وأعطي الشكل الذي سيعبّر عنها 25%.
* ثمة أمرٌ رائج في الصحافة المكتوبة، وبشكل خاص في الصحف، أن يوضع رسم الكاريكاتير في الصفحة الأخيرة، فيظهر كنوع من “الحلوى” بعد المواضيع الجادة والعميقة التي بالطبع لا تكون في الصفحة الأخيرة. كيف تنظر للأمر؟ وهل ينتبه القارئ فعلًا إلى غياب الكاريكاتير؟
بالنسبة للنصف الأوّل من سؤالك، لا، أظن الكاريكاتير وجبة أساسية لكن بالمقلوب. ليس الكاريكاتير للتسلية أو التحلية. بعض الناس كانت تقرأ الجريدة بدءاً من صفحتها الأخيرة، حيث يوجد الكاريكاتير، لأنه يلخّص المشهد بأقلّ العبارات أو من دون عبارات مطلقًا. كان الناس، عندما تختفي لوحة الكاريكاتير لسبب ما، يتصلون بي ليسألوني عن صحتي وعن سلامتي. وهذا أمر لا يحدث اعتباطًا أو بطريقة عفوية، إنما يصير بعدما يكون الفنان قد بنى جسور تواصل مع الناس، بدلًا من التناول السطحي لقضاياهم.
* هل تعتقد أن تأثير وفعالية الكاريكاتير أسرع في الوصول إلى قطاع أوسع من الناس، مقارنة مع طرق تعبير أخرى، تعتمد الكتابة والشروحات؟
نعم، أتفق مع هذه الفكرة. وبسبب كون الكاريكاتير طريف، كصورة وكفكرة، فهو يحمل عامل جذب أعلى، لأن الصورة الكاريكاتيرية لا يتوقف تأثيرها عندما ينتهي الرسام من الرسم، لكنها تستمر إلى أن يتلقفها متلقٍ يعمل على فهمها وتحليلها.
هل الكارتون ترف كوميدي يمكن تجاوزه؟ أم هو وسيلة تعبير أصيلة لها قدرة توصيل استثنائية غير إثارة السخرية؟
هو حجر في بحيرة يشكّل دوائر ويفتح آفاق تحليل لدى الناس، لفهم المقصود. وفي الوقت ذاته، يشحن المتلقي بالشحنات التي يضعها الرسام، مثل استعداء سلطة جائرة أو استعطاف لقضية ما أو لإشاعة الأمل.
* ما علاقة الكاريكاتير بالسياسة؟
هناك رسامون يتجهون إلى ما هو سياسي بحت، وآخرون يتطرقون إلى ما هو إنساني بحت من دون التطرق للسياسة. وهناك رسامون يهتمون بالنواحي الاقتصادية. بالنسبة لي، لا أتوجه بشكل مباشر لأي من هذه المحددات، وإنما أرى الصورة الكاريكاتيرية خليطًا ومزيجًا من كل تلك العوامل معاً.
* وماذا عن الكلمات أو العبارات التي تكون مصاحبة للوحات، أيمكن الاستغناء عنها؟ أم أنها ضرورية، تكمل المعنى أو توضّحه؟
لا أحب أن أتقمّص دور الأستاذ في هذا المجال، ولا أملك أن أقول لغيري لا تكتبوا أو اكتبوا. لكنني أُفضِّل الكاريكاتير الخالي من العبارات، لسبب بسيط: إنه يدعوك للتأمّل والتحليل، لفهم ما هو مرسوم، حيث تتشكل حول اللوحة الخالية من الكلمات أكثر من وجهة نظر، أو تأويل. بالإضافة إلى أنها تمنح متعة للمتلقي، عندما يكتشف المعنى، وهذه الحالة تلغيها الكتابة عندما يمسك الفنان بيدكِ ويوجهك لما يريد.
* رأينا كيف تعرّضت الصحيفة الأسبوعية الفرنسية شارلي إيبدو للاعتداء، وتعاطفنا مع حرية التعبير. لكن كيف تلقيت رسوماتهم الأخيرة التي تمسّ اللاجئين بطريقة هازئة؟
لرسامي الكاريكاتير حواضن بيئية واجتماعية. نحن لا نستطيع أن نتعامل مع فنانين من ثقافات مختلفة، على أنهم منّا ولهم همومنا نفسها، ويجب أن يشاركونا انفعالاتنا وثقافتنا. كما أن أغلب الصحف الغربية تمنح الفنان مساحات كبيرة من الحرية، وتلك من الأمور التي لا يعاقبون عليها، ما يعني أننا لا نستطيع تحميلهم كلّ اللوم.
* هل تجدها مستفزّة حقًا؟ وهل قامت المجلة بما يتجاوز مهنة الرسام؟ أم يسيء إليها؟ أم أن الاستفزاز مهمة يجب أن يقوم بها الرسام للتحفيز عندما تستحيل الوسائل الأخرى؟
أنا كسوري طبعاً تستفزني هذه الرسومات، لكنني كفنان أستطيع مواجهة هذه الرسومات برسومات أخرى توضح وجهة النظر الثانية أو وجهة نظرنا نحن حيال تلك الأفكار التي نراها مغلوطة. ونجاح الكاريكاتير هو بقدر ما يحمل من همّ محلي إنساني إلى الخارج، والدليل تبنّي صحف عالمية، كالغارديان واللوموند، لرسوماتي التي تعبّر عن هموم محلية.
* لديك شخصيات ربما أصبحت نمطاً كارتونياً بحد ذاتها، مثل الرجل النحيل صاحب الذقن غير الحليقة الممثِل للمقهور الفقير، والآخر السمين ذي الوجه المتنفج من فرط التغذية. هل امتلاكك لأدوات كهذه، يسهّل عليك عملية الإبداع، ومن ثم الوصول للناس؟
طبعاً.. لأنني أستخدم الرسم بالرموز من دون كلام. لذلك أستعمل أنماطاً أصبحت شهيرة كهذه، وأصبحتُ أُعرف بها، وهي تُسهّل إيصال أفكاري إلى الناس، مثل صورة المواطن، وصورة المسؤول، ورجل المخابرات، وغيرها، أستخدمها كمفتاح أتخذ منه موقفاً مستعدياً أو متعاطفاً، فجميعهم بمثابة ممثلين على خشبة مسرح الصورة.
* ثمة تحدّ لرسامي الكاريكاتير، قلّما يتم التطرّق إليه. إذ ثمة برامج رسم للحاسوب، قادرة على الرسم بطريقة فنية عالية قد تتجاوز قدرة الرسام. كيف تنظر للأمر؟
لا لا، أنا لا أستخدم هذه البرامج، وليس عندي الاستعداد لتعلّمها، لأني أراها كالقبلة من خلف زجاج، جافة وباردة بسبب غياب التفاعل الفيزيائي والكيميائي المباشر مع القلم.
* وماذا عن الرسم من خلف زجاج آخر، فها أنت خارج الجغرافيا السورية، كما لو أن الرسم أطلق أصابعك وحرر أقلام الفحم. هل تغيّر الأفق لديك، إذ صرت ترسم مواضيعك وأنت تطلّ من النافذة؟
لا يوجد مواضيع محددة، هناك هم وطني إنساني، أنا أعمل عليه منذ ثلاثين عاماً، منذ احترفت الصحافة. وهمي هو الشارع، لم أنتمِ إلى أي جهة سياسية أو حزبية، بل أنتمي للناس بأطيافهم، وولائي للبلد، بأفراده الذين يعيشون معي. فأنا لست “مستشرقاً” أنظر إليهم عبر عدسات منظار، إنما أنا منهم. همومهم تنتقل معي أينما كنت. لكن أختلف عن معظمهم أن لديّ موهبة الرسم التي أستطيع أن أعبّر من خلالها عمّا يكابده أي مواطن، وأوظّف في سبيل ذلك الريشة والقلم.
والرسالة يجب أن تصل من أي مكان، طالما أنها تحمل الهم الوطني والإنساني، فسواء أوصلت من قريب أم من بعيد، فهي ستصل بالفعالية ذاتها، طالما أن سورية تعيش داخلي، ولا علاقة للجغرافيا أو الحيّز المكاني الذي أتواجد فيه، في طريقة التعبير أو كمية المشاعر التي أرغب في بثّها.
بالنسبة لي، كسرتُ حاجز الخوف عندما كنت في داخل الوطن، ورسمت وأوصلت ما أريد، ومن ثم أكملت المهمة نفسها عندما خرجت للعلاج، لأن ما هو مطلوب مني هو أن أستمر في العطاء من دون توقف، ليكون إنتاجي بوصلة ترشد أي إنسان.
أنا لم أخرج من البلد، فالبلد لا زال موجودًا في داخلي، في قلبي. أما الغربة الجغرافية أو الزمنية، فإنها لم تؤثر على انتمائي، وسورية لم تبتعد عني ولم أبتعد عنها، فمعاناتها الحالية جزءٌ من يومياتي.
* بعد الخروج من الوطن وغياب سقف الرقيب، هل فقد الكاتب والفنان الساخر متعة التلاعب على حبال الخطوط الحمراء التابعة لمخابرات وفروع أمن النظام؟ أين يذهب ذلك الجهد المبذول في التحايل وقد فقد أسبابه؟
أظن أن قيمة الكاريكاتير أو تأثيره عندما كنت في الداخل، جاء من أنني انتقدت بشكل مباشر ما كان يعتبر “تابو” أو من المحظورات، أعني رأس النظام وفروع الأمن، حيث ذكرتهم بالاسم. فلم يعد لديّ ما هو أقسى من ذلك. بقيت مهمتي الاستمرار في تقديم ما يهمّ الناس ويحاكي مشاعرهم. لذلك رأيتِ كيف راح الناس يرفعون هذه الرسومات خلال المظاهرات.
ولقد سخرت من الرئيس، حين كانت الناس تتكلم عن السلطة همساً، أو تخاف حتى الهمس، باعتبار أن “للجدار آذان”. في أيام الهمس، صرخت بأعلى صوت من الداخل.
* هل معرفتك الشخصية بالرئيس السوري بشار الأسد، كانت محرجة لك؟ ودفعتك للتخفيف من حدة نقدك لظاهرة سياسية أو اجتماعية ما في سورية؟ أم العكس؟
كانت المعرفة من قِبَلِهِ وبطلب شخصي منه، ولست أنا من سعى باتجاهها. حيث زارني في معرض، في المركز الثقافي الفرنسي عام 1996، وأراد من خلالي أن يتعرّف إلى نبض الشارع، وحاول أن يستفيد منّا نحن الفنانين للتسويق له وإيصال شعاراته “الخلّبية” للناس، وليس ليكون قريبًا منهم وحاضراً لخدمتهم. وهذا ما شجّعني على معارضته منذ البداية، لمعرفتي بتلفيقاته. وأنا حاولت باستمرار الابتعاد عنه قدر الإمكان حتى نجحت بذلك في عام 2009.
* هل طلب منك الرئيس السوري بشار الأسد أن ترسم شيئًا محددًا أو موضوعًا بعينه؟ وهل وجّهك إلى مجال معيّن، كما كان يفعل مع بعض الفنانين الممثلين في التلفزيون والمسرح؟
بالعكس أنا من كنت أقول له ما يفعل وما لا يفعل، ليتقرّب من الناس، لكنه لم ينجح بذلك. ودعمني في التحرر من سلطته، استقلالي المادي، حيث كان مصدر رزقي من عملي الفني والصحافي في مجلات عربية وعالمية، ما صعَّب عليهم شراء قلمي ولساني. حتى استدعاني أحد رؤساء فروع الأمن، وهو رفيق شحادة، وقال لي: هل يعقل أن تنشر غسيلنا الوسخ أمام الإمبريالية والصهاينة؟؟ فرددت عليه: ولمَ لا تسألون أنفسكم لماذا توسخون الغسيل؟؟
* كم ديكتاتوراً رسمت؟ أتعتقد أن بعضهم لديه حسّ الفكاهة، لذلك يفضّل مصادقة خفيفي الظلّ من الفنانين؟
رسمت كل ديكتاتوريي العالم في واحد، لأنهم جميعاً متشابهون. وأذكر لك قصة في هذا السياق: في معهد العالم العربي في باريس، رسمتُ جنرالاً يسكب أوسمة ونياشين في الطبق لمواطن فقير يحتاج طعاماً ومن حولهما الدمار. كان ذلك في عام 1989. وقد ظنّ السفير العراقي وقتها أنها تمثّل صدام حسين، وطالبَ الحكومة الفرنسية ووزارة الثقافة بإنزال اللوحة من المعرض، وعملت القصة ضجّة نشرتها في حينها صحيفة اللوموند. كما منعتُ من زيارة ليبيا بسبب اللوحة ذاتها، لاعتقادهم أنني أجسّد القذافي. وفي سورية، رَفع وزير الدفاع دعوى ضدّي، لظنّه أنه بطل اللوحة! بينما الصورة، كانت فقط لديكتاتور، لا على التعيين.
بالنسبة لخفة ظلّ الديكتاتور لم أجدها عند الرئيس السوري بشار الأسد، بل وجدت نقيضها؛ فتجلى ثقل ظلّه وسماجته، في ضحكته أثناء خطابه الأول بعد الثورة عندما كان الدم يسيل في شوارع درعا.
* هل تخيّلت قبل خمس سنوات، أن ترسم لوحة تعكس هذا الراهن المليء بالركام؟
مهما أطلقت مخيلتي، فلن أصل إلى صورة سورية بهذا الحال من تدمير شاملٍ للشجر والحجر والإنسان وحتى الحيوان. فهل سمعتِ عن نظام يعدم حماراً كتبت فوقه عبارات ساخرة؟ لذلك أتت الصورة الدموية أوسع من الخيال. ولكن نستطيع بالوقت نفسه أن ننتبه إلى الجانب المضيء، إنما الغريب أيضًا، وهو استمرار الشعلة الثورية والمطالبات المستمرة بالحقوق رغم كل السواد الذي يغطي أرض الواقع. فلا بدّ أن هذا الإصرار سيؤدّي إلى إعادة التوازن يوماً ما، وستبنى سورية من جديد بالشكل الذي نريده بعد أن نقضي على كل شذّاذ الأرض الموجودين حالياً.
العربي الجديد