
التمرد واحلام الدولة العلوية التي تبخرت … مرهف مينو
في مشهد يعكس حجم التحديات التي تواجه سوريا الجديدة، تمكنت الدولة الوليدة من إفشال أكبر مخطط تمرد قاده ضباط وعناصر من نظام الأسد السابق في الساحل السوري، تحديدًا في محافظتي طرطوس واللاذقية.
لم تكن مجرد محاولة عابرة لزعزعة الاستقرار، بل هي معركة مصيرية بين الماضي والمستقبل، بين قوى الثورة التي غيرت المعادلة السياسية، وفلول النظام القديم التي لا تزال تحلم باستعادة نفوذها.
ما جرى في الساحل السوري لم يكن مجرد اضطراب أمني محدود، بل كان مخططًا مدروسًا بعناية، يهدف إلى إعادة إحياء مشروع “الدويلة العلوية”، وهو الحلم الذي راود بعض قادة النظام السابق منذ سنوات.
فمن خلال ضرب مؤسسات الدولة، وتنفيذ عمليات إعدام وخطف بحق عناصر الأمن العام والمدنيين، سعت فلول الأسد إلى فرض أمر واقع جديد، ظنًا منها أن مناطق الساحل لا تزال موالية لها، وأن بإمكانها إعادة عقارب الزمن إلى الوراء.
لكن المفاجأة الكبرى كانت في الرد السريع والحاسم من قبل الدولة الجديدة، حيث استطاعت خلال ساعات استعادة السيطرة وإحباط المخطط الذي كان من شأنه أن يهدد وحدة البلاد ويدخلها في دوامة تقسيم لا نهاية لها. هذه المواجهة حملت رسائل عميقة، أولها أن الشعب السوري لم يعد مستعدًا للعودة إلى سوريا المتوحشة التي كانت تدار من قبل الاسد وعصابته.
فقد أظهرت التعبئة الشعبية الضخمة، من خلال تطوع نصف مليون شاب لحمل السلاح إلى جانب الجيش، أن السوريين يرون في الدولة الجديدة ممثلهم الشرعي، وليس في رموز النظام السابق الذين أثبتوا فشلهم على مدار عقود.
وثانيها أن الأجهزة الأمنية والعسكرية في سوريا ليست كما كانت في الماضي. فاليوم هناك دولة قائمة على مؤسسات قادرة على الاستجابة الفورية لأي تهديد، وهو ما برهنت عليه القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في الساحل، حيث تمكنت من وأد التمرد في مهده.
وهذا يعكس نضج الدولة وقدرتها على التعامل مع التحديات، بعيدًا عن الارتجال والفوضى التي ميزت الحقبة السابقة.
لكن ما يلفت النظر هو دور إيران في هذه الأحداث، إذ بدا واضحًا أن طهران لم تستوعب بعد خسارتها الاستراتيجية في سوريا، وهي تحاول بكل وسائل العبث بالاستقرار، مستغلة بعض الشخصيات العسكرية والأمنية السابقة لتنفيذ أجنداتها.
الإعلام الإيراني، يبني خطابًا تحريضيًا، في محاولة يائسة لإثارة الفوضى الطائفية، عبر تصوير الصراع على أنه مواجهة بين (أتباع الجولاني) _ في إشارة إلى الرئيس أحمد الشرع _ و”العلويين”، متجاهلة الحقيقة الأساسية، وهي أن ما حدث كان مواجهة بين دولة تريد بناء المستقبل، وميليشيات مرتبطة بنظام فاسد تحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
يبدو أن خصوم السلطة في سوريا يفتقرون إلى رؤية سياسية واضحة، مما يدفعهم إلى استخدام أساليب التشويه والتمسك بالماضي بدلاً من تقديم بدائل حقيقية.
اختزال المرحلة بشخص أحمد الشرع، وتسميته بـ”الجولاني”، ليس إلا محاولة بائسة لتشويه المشهد، وإيهام الرأي العام بأن التغيير لم يحدث، أو أنه مجرد استبدال لرموز بآخرين.
لكن الحقيقة أن من يريد تغيير الواقع السياسي عليه أن ينزل إلى الميدان، لا أن يختبئ خلف الخطابات المهترئة.
السياسة هي قدرة على صياغة تكتيكات عملية تضمن الحفاظ على المكتسبات وتطويرها.
أما الذين يظنون أن بإمكانهم هز الشجرة وترك الثمار تسقط في أيدي اللصوص، فهم إما واهمون أو متآمرون.
المطلوب ليس مجرد زعزعة الأوضاع، بل امتلاك رؤية واضحة لكيفية توجيه الحراك السياسي لصالح سوريا ومستقبلها.
إن إفشال هذا المخطط الانفصالي يعد ضربة قاسية لمشروع “الدويلة العلوية”، الذي لطالما كان خيارًا بديلاً لدى بعض أركان النظام السابق، خاصة في حال فقدانهم السيطرة على دمشق.
وكان هذا المشروع يعتمد على استغلال البعد الطائفي في الساحل السوري، والاستفادة من الطبيعة الجغرافية للمنطقة كحصن طبيعي.
لكن ما حدث مؤخرًا أثبت أن البيئة الشعبية في الساحل لم تعد حاضنة لهذه الفكرة كما كانت في السابق، وأن الرهان على هذا الخيار أصبح مستحيلاً.
الأهم من كل ذلك، أن هذا التمرد كان بمثابة اختبار حقيقي لقدرة سوريا الجديدة على التعامل مع التحديات الأمنية الكبرى، وقد نجحت الدولة بامتياز في إحباط المؤامرة.
هذه الرسالة القوية تعني أن سوريا اليوم ليست كما كانت بالأمس، وأن من يراهن على ضعف السلطة الجديدة، أو إمكانية إشعال فوضى أمنية تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، فهو واهم.
لا شك أن طريق إعادة بناء سوريا لا يزال طويلاً، لكن ما جرى في الساحل أكد أن هذا الطريق، رغم صعوبته، يسير بثبات نحو دولة قوية ومستقرة، لا مكان فيها لمن تلطخت أيديهم بدماء السوريين، ولا مجال فيها للمتآمرين، مهما كانت الجهات التي تقف وراءهم.