
“المسلمون منزعجون أكثر من المسيحيين”… تصاعد مخاوف سوريين بسبب الدعوات الإسلامية
سيارات دعوية تجوب الأحياء ذات الغالبية المسيحية في دمشق بين الحين والآخر، مردّدة عبر مكبّرات الصوت عبارات مثل: “إن الدين عند الله الإسلام، ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه”.
تمرّ هذه السيارات في مناطق باب توما، وباب شرقي، والقصاع، وصولاً إلى حي الدويلعة، يرافقها عدد من الدراجات النارية، وفي أحدث ظهور لها، توقّفت إحداها أمام كنيسة مار يوسف في حي الدويلعة المتاخم لباب شرقي، وأظهر مقطع فيديو مجموعة من الأشخاص متجمهرين حول السيارة، بينما بدأ رجل غاضب يصرخ: “أنا مسلم، وعبقلك تفل!” ثم يدفع أحد مستخدمي السيارة، قبل أن يصعد هو وشخص آخر إليها ويغادرا الحي.
ظهرت “الدعوات إلى الإسلام” في الفضاءات العامّة في سوريا بعد فترة وجيزة من سقوط النظام، وتنوّعت أشكالها بين ملصقات تدعو النساء والرجال إلى اللباس المُحتشم، ودعوات لنساء “مخمّرات” يطلبن من النساء في الشوارع ارتداء لباس شرعي، وصولاً إلى الدعوة للإسلام عبر مكبّرات الصوت.
قلق مسيحي سوريا يتزايد
تُثير هذه الدعوات قلقاً لدى الأقلية المسيحية، وحتى لدى باقي الأقليات انتهاء بالمسلمين المعتدلين، إذ يرى البعض في هذه الدعوات ضغطاً دينياً في مرحلة حسّاسة من تاريخ البلاد، تقول ريتا (اسم مستعار) وهي شابة مسيحية من دمشق: “الأديان تشترك في رغبتها في نشر تعاليم دينها، لكن الطريقة تختلف. ففي أوروبا، مثلاً، يتمّ عرض الكتاب المقدّس على المارّة في الشوارع، مما يُتيح لهم قراءة بعض الآيات من الإنجيل”.
تتابع ريتا: “المشكلة التي نشهدها في سوريا هي النزعة الإقصائية، حيث يُنظر إلى الآخرين على أنهم لا يفهمون شيئاً، ويُقدَّم الإسلام على أنه الطريق الصحيح الوحيد. ما يميّز الوضع هنا هو الأسلوب القسري، حيث يتمّ استخدام أساليب ومظاهر غير مألوفة ومزعجة حتى للمسلمين أنفسهم، مثل اللحى والملابس الغريبة مثل الجلابيات، ليتمّ دعوة المسيحين للانضمام، ويُنظر إليهم على أنهم لا يفهمون الحقيقة أو حتى ضالّون”.
تقول كريستين (اسم مستعار) وهي شابة مسيحية، كانت تمرّ قبل أيام في حي الدويلعة وشاهدت سيارة الدعوة: “منذ البداية، قلّة قليلة من المسيحيين ابتهجت حقاً بسقوط النظام، بينما ساد الخوف والتوجّس لدى الأغلبية، خشية أن تنزلق البلاد نحو التشدّد، لا سيما إذا تولّت القوى الإسلامية الحكم”.
غالباً ما يُواجَه قلق المسيحيين، سواء في الأوساط الشعبية أو على وسائل التواصل الاجتماعي، بالقول إن هذه الدعوات تندرج ضمن حرّية التعبير التي يسعى إليها السوريون. وحول ذلك يقول الكاتب والباحث روجيه أصفر: “هل هذه الحرّية تشمل الجميع؟ هل يمكنني كمسيحي، على سبيل المثال، أن أذهب إلى أحياء ذات أغلبية مسلمة وأدعو إلى المسيحية بالطريقة نفسها التي يتمّ فيها التعبير عن هذه الدعوات؟ أعتقد أن الكثير منا يتّفق على أنه أمر غير ممكن. وبالتالي، فإن الأمر لم يعد حرّية تعبير، بل أصبح حرّية محصورة بفئة معينة”.
يتابع أصفر قائلاً: “مع توازن القوى الذي نعرفه، حيث توجد أغلبية وأقليات، ومنطق منتصر ومهزوم ومظلومية سنّية محقّة وعميقة، يصبح الموضوع أكبر من مجرد حرّية تعبير. إنه تحدٍ لفرض رأي معين، ويمكن أن يُعتبَر استفزازاً. إذا كان الحادث فردياً، قد يتعامل الناس معه بشكل مختلف، ولكن عندما يصبح جزءاً من سلسلة تصرّفات صادرة عن سلطة الأمر الواقع، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بفرض آراء دينية على المسلمين السنّة من مذاهب مختلفة، يصبح من السذاجة أن نراه مجرّد تصرّف فردي أو تعبير عن حرّية شخصية. الموضوع يتعدّى ذلك ليصبح فرض رأي وتحدياً واستفزازاً”.
حول هذا تقول ريتا: “ما يزعجني أكثر، هو أن هذا النوع من الدعوة الدينية لا يقتصر فقط على نشر الدين، بل يتضمّن أيضاً التهديد بالعقاب لمن لا يتوافق معه، مما يقلّل من الأمان ويزيد من القلق والتوتّر بين الناس”.
لكن خوف ريتا الأكبر هو أن يتحوّل هذا الدافع الديني إلى تهديد مباشر، أو أن يتعرّضوا للعنف أو حتى القتل. فبعد طرد سيارة الدعوة من حي الدويلعة، انتشرت بين السكان مخاوف من أن يعودوا للانتقام منهم، حسبما تقول ريتا.
بجميع الأحوال المخاوف من هذه الحركات تمسّ الأقليات كلها وحتى المجتمع السنّي المعتدل، الذي لم يعتد هذه المظاهر، وهو ما تختصره كريستين بقولها: “الإسلام مزعوجين أكثر من المسيحيين”، وهذا ما تجسّده حادثة الدويلعة حين قام رجل مسلم بطرد سيارة الدعوة.
خوف على الحريات الدينية
كانت كريستين تدافع عن الحكومة الجديدة أمام عائلتها وأصدقائها، مطمئنةً إياهم بأنه لا داعي للقلق كأقلية، وأن الحكومة الجديدة لن تتجرّأ على ارتكاب أية انتهاكات بهدف الحفاظ على صورتها أمام المجتمع الدولي، خاصّة مع سعيها للتخلّص من العقوبات، لكنها اليوم، باتت تشعر أن الواقع ليس كما تصوّرته، وأن هناك خطراً حقيقياً يهددهم.
تقول كريستين: “قد لا يُغادر المسيحيون سوريا، لكنهم قد يُحرمون من ممارسة طقوسهم بحرّية، في ظلّ توجّه الدولة نحو إسلامية خالصة. قد يُشبه ذلك وضع المسيحيين في الأردن، حيث يمكنهم أداء شعائرهم، لكن من دون صدى واسع أو ظهور علني بارز”.
وهو ما يُوافق عليه روجيه أصفر: “أعتقد أنه ليس هناك خطر مباشر على حياة المسيحيين في سوريا بسبب ديانتهم، بل الخوف الأكبر يكمن على حقوقهم وحرّياتهم الشخصية. فهم يعيشون في قلق دائم على نمط حياتهم الذي قد يتأثّر بالتغيّرات السياسية والاجتماعية. يمكن تشبيههم بعصفور الكناري في المناجم، إذا حدث تهديد أو تغيير غير صحّي، سيكونون أول من يشعر به”.
يُذكر أنه في يوم سقوط حُكم بشّار الأسد، ساد الذعر في بلدة معلولا ذات الأغلبية المسيحية، وفرّ بعض سكانها إلى دمشق، بعد انسحاب جيش النظام السابق وتقدّم “هيئة تحرير الشام”، خشوا تكرار سيناريو 2013، عندما سيطرت “جبهة النصرة” على البلدة لسبعة أشهر، محوّلةً إيّاها إلى ساحة حرب شهدت القتل والخطف وتدمير الكنائس والمنازل.
ما موقف السلطة مما يحدث؟
ما يحصل يُثير أسئلة حول رضى السلطة الجديدة ودورها، وحول هذا يقول روجيه أصفر: “من خلال متابعتي، يظهر لي أن السلطة تتّبع سياسة تسمح بالفوضى، وبتوجّه إعلامي يتقصّد الغموض، وقد تكون جزءاً من سياسة جسّ نبض لمواقف معيّنة وفرض بعض الآراء باسم الدين. يتمّ السماح لبعض العناصر من ذوي الحميّة الدينية العالية، بالتعبير عن آرائهم، أو ربما في حال تلقّي ردود فعل رافضة بقوّة تُمنع هذه التعبيرات لاحقاً، لتظهر السلطة أنها تدعم حرّية الآخرين وتحميهم”.
تواصل “درج” مع الكاهن فراس لطفي من دمشق، الذي قال: “وصلتني مشاهد أناس يدعون للإسلام في أحياء يقطنها المسيحيون في باب شرقي وباب توما، فسارعنا إلى إعلام السلطات المحلّية، التي استنكرت بشدّة وقالت إنها تصرّفات فردية وغير رسمية”، كما أعلمت السلطات الكاهن أنها ألقت القبض عليهم، وشجّعته على تقديم شكوى مباشرة في المرّة المقبلة لدى أقرب مخفر أو جهة أمنية، لكن ظهور سيارة جديدة قبل أيام في حي الدويلعة يُثير تساؤلات عن مدى الجدّية في معالجة هذا الوضع.
يُذكر أنه لا تُوجد أرقام دقيقة لأعداد المسيحيين في سوريا، لكن لا ينفي ذلك تناقصهم منذ بداية الثورة السورية، وترك الكثيرين منهم سوريا نحو بلدان المهجر، خصوصاً مع التسهيلات الأوروبية التي قُدّمت لهم تحت شعارات إنقاذ مسيحي الشرق.
روجيه أصفر يقول: “الخطر على الوجود المسيحي في المنطقة يزداد بسبب سياسات السلطة الحالية. يُعاني المسيحيون من تراجع الحرّيات والضغط الديني والاجتماعي. ربما شعروا بالارتياح لغياب الأسد، إلا أنهم لا يرون أي مؤشّر إيجابي من السلطة الجديدة، مما يعني أن الوضع لم يتحسّن بشكل ملموس، ولا يبدو أن الوضع الحالي يُشير إلى تحسّن حقيقي مقارنة بالوضع السابق النظام السابق”.
يزيد الوضع الاقتصادي من الاحتقان في الشارع السوري، كما يتسبّب بالإحباط لكثير من السوريين بخاصة الشباب، الذين حاولوا التمسّك بالبلد رغم انتهاكات نظام الأسد.
تقول ريتا: “قضيت سنوات طويلة متمسّكة بفكرة أنني لا أريد مغادرة البلد، وأنني أحبّ هذا المكان وأريد العودة إليه دائماً. لكن في الآونة الأخيرة بدأ شعور جديد يتسلّل إليّ. صرت أفكّر أنه ربما أصبح من الضروري مغادرة البلاد بسبب حالة الخوف المتزايد، وكأننا نعيش تحت تهديد مستمرّ. لقد كنت أظنّ أن الوضع في سوريا كان صعباً بسبب النظام والظروف الاقتصادية، لكن الآن بدأت أشعر وكأننا نعيش في جوّ من الاضطهاد والخوف، وكأننا قد نكون الضحايا الجدد”.
تتابع ريتا: “حتى أصدقائي المسيحيين يتحدّثون بالطريقة نفسها عن مغادرة البلاد، ويتشاركون المخاوف نفسها. نحن لم نعد نخشى فقط من الاعتقالات والتضييق على آرائنا، بل أصبح الخوف من أن الانتماء الديني نفسه يشكّل تهديداً لنا”.
§