
“فرحةُ العيدِ وحكايةُ الحلاقِ” … المهندس باسل قس نصر الله
عندَ بابِ الحلاقِ، كان علينا الانتظارُ طويلًا. كان المحلُّ مزدحمًا بالصغارِ والكبارِ، والجميعُ يريدُ أن يكونَ جاهزاً لاستقبالِ العيدِ. يجلسُ الرجالُ على المقاعدِ الخشبيةِ، يتبادلونَ أطرافَ الحديثِ عن أجواءِ الأعيادِ وأينَ سيقضونَ العيدَ. أما نحنُ الصغارُ، فكنا نحملُ في جيوبِنا القليلَ من النقودِ التي أعطانا إياها آباؤُنا، نخططُ لشراءِ الحلوى أو البالوناتِ بعد أن ننتهيَ.
كان الحلاقُ رجلاً طيباً، لكنهُ سريعُ الحركةِ، كأنهُ في سباقٍ مع الزمنِ. يُمسكُ المقصَّ ويمضي بهِ فوقَ رؤوسِنا كما لو كان نحاتًا يصنعُ لوحةً فنيةً وهو يُلقي الكلماتِ ويُحدِّثُنا بآخرِ أخبارِ الحارةِ والمدينةِ ولا غرابةَ أنْ يتطرَّقَ إلى السياسةِ الإقليميةِ والدوليةِ، وكلما قصَّ خصلةً، ابتسمنا بفرحٍ، لأنَّ هذا يعني أنَّنا أصبحنا أقربَ للعيدِ. وعندما كان يمسكُ زجاجةَ العطرِ ويرشُّها على رؤوسِنا في النهايةِ، كنا نشعرُ وكأنَّنا ارتدينا العيدَ نفسهُ، وكأنَّ هذهِ الرائحةَ الزكيةَ هي إعلانٌ رسميٌّ أنَّ الفرحَ قد بدأَ.
ما إنْ ننتهيَ حتى نركضَ إلى بيوتِنا، متباهينَ بقصاتِ شعرِنا الجديدةِ، ونتخيلُ أنفسَنا نرتدي ثيابَ العيدِ وننطلقُ في الشوارعِ صباحاً لاستقبالِ العيدياتِ. كانت الأمهاتُ ينتظرْنَنا، ينظرْنَ إلينا بعيونٍ فاحصةٍ، ثمَّ تبتسمُ إحداهنَّ وتقولُ: “ما شاءَ اللهُ، كأنكم كبرتم سنةً كاملةً!” كنا نضحكُ، لأنَّنا نشعرُ بالفعلِ أنَّنا أصبحنا أكبرَ، ولو بقليلٍ.
ليلةُ العيدِ كانت لها طقوسُها. كنا ننظفُ أحذيتَنا حتى تلمعَ، ونرتبُ ملابسَنا الجديدةَ بدقةٍ على الكرسيِّ بجوارِ السريرِ، كأنَّنا نخشى أنْ تختفيَ في الليلِ. كنتُ أستلقي على الفراشِ وأغمضُ عينيَّ، وأحاولُ النومَ رغمَ أنَّ الحماسَ كان أقوى من النعاسِ. كنتُ أتخيلُ كيف سيبدأُ يومُنا، وكيفَ سنصافحُ الأهلَ والجيرانَ، وكيفَ سأحصلُ على أولِ عيديةٍ وأركضُ بها إلى الدكانِ لأشتري بها شيئاً كنتُ أتمناهُ طوالَ الشهرِ.
اليومَ، وأنا أنظرُ إلى الأطفالِ وهم يذهبونَ للحلاقِ في ليلةِ العيدِ، أبتسمُ وأتذكرُ تلكَ الأيامَ. قد تتغيرُ الأماكنُ وتتغيرُ الأوقاتُ، لكنَّ فرحةَ العيدِ ستظلُّ دائماً كما هي، رائحةَ العطرِ في شعرِ طفلٍ خرجَ للتوِّ من عندِ الحلاقِ، وعيونَهُ اللامعةَ التي تنتظرُ صباحَ العيدِ بفارغِ الصبرِ.
هذا هو عيدٌ جديدٌ لكلِّ السوريينَ .. عيدٌ يبدأ بدايةً جديدةً وكأنَّنا ما كبرنا، وما ضاعت من عمرِنا أوهامٌ لأكثرَ من نصفِ قرنٍ.
وكعادتي أقولُ ..
كلُّ عامٍ وكلُّنا بخيرٍ.
وكلُّ عام وأنتم الخير لسورية
اللهم اشهدْ أني بلغتُ.