رسالة إلى الساروت … غطفان غنوم

هل تذكر، يا عبد الباسط، تلك اللحظة التي قال فيها ذلك الطفل: “سأخبر الله بكل شيء”؟
تألمت معنا آنذاك، وغنيت بصوتك المملوء بالغضب والعزيمة، وزادتك الجراح إصرارًا.
سألك أحدهم، لماذا لا تتزوج؟ فأجبت: “أنا هيك هيك ميت، ليش لأبلي بنت حلال معي!” ثم رحلت.
رحلت بعد أن اجتاح قلبك الألم مرارًا وتكرارًا، بعد أن اختلطت آلامك بالنار، ورحلت وأنت وصيتنا بألا يذهب دم الشهداء هدراً، بينما كنت تنتحب غائباً عن الوعي في أقسى لحظاتك، لحظات قد يكون الإنسان فيها في أصدق تجلياته، عندما يندمج وعيه بلا وعيه.
ماذا أخبرك، يا عبد الباسط؟
لقد أصبحت أيقونة، وصرت رمزًا خالدًا في ذاكرة الشعب، اعترف الناس بك شهيدًا، وجمع الجميع على حبك.
غنى لك الكثيرون، وما زالت صورك تملأ الصفحات، وقلوبنا تردد اسمك.
لكن، هل نفذنا وصيتك؟
هل بقينا أوفياء لك ولدماء الشهداء؟
هل سنرفع رؤوسنا وننظر في عيونكم بفخر إذا عدتم؟
هل اعتذر أحد من أهانوك، يا عبد الباسط؟
هل ندم أحد على جرحك، يا حارس الكرامة؟
هل غضب أحد لك من تراجع عن مرماك؟
هل تحققت العدالة؟
هل صارت البلاد جنة؟ وهل فتحت الطرقات إليها؟
هل هذه هي الصورة التي أردناها، يا صديق الجميع؟
ماذا لو كنت بيننا اليوم؟
هل كنت ستسعى لترتقي إلى ترند؟
أم كنت ستتسلق المناصب الزائفة التي لا تليق بعظمتك؟
هل كنت لتصمت على خيانة دم؟
هل كنت لتنكر دمًا جديدًا يُسفك في ساحة الخيانة؟
لقد كان لي فضول دائمًا أن أخاطبك، أنت الذي كنت العفوي الثائر، صاحب الطبع الناري والروح الجميلة، الذي لا يخطط لكلماته ولا يلتفت للنميمة.
لماذا وصيتنا بعدم خيانة دم الشهداء ولم تضع لنا خارطة طريق لذلك؟
اتهموك بالمحدودية، وحاكوا عليك تهم الجهل والسطحية، وقالوا عنك: “أنت رجل عادي!”
لكن ما أروع العبقرية أن تكون عاديًا في زمنٍ أصبحت فيه الأوغاد نجومًا، وتهافتت أصوات المدعين الذين يرفعهم المتربصون.
لو كنت هنا، يا عبد الباسط، لغنيت للساحل كما غنيت لحمص، ولغنيت لعامودا كما غنيت للخالدية، ولغنيت للمدني والعسكري، ولجلست وحيدًا، حزينًا، في لحظاتك الصادقة.
هكذا أنت، جميل في رحيلك، وجميل في حضورك في الذاكرة، لأنك مقياسنا الذي نُقاس به.
رحمك الله، ورحم كل من رحل قبلك وبعدك.
لا تنظر إلينا الآن، فنحن في وقتٍ نأكل فيه بعضنا، ننزع جلدنا، ونرتكب المجازر بعقولنا.
ثقافتنا في حيرة، ومثقفونا في تعب، والبعض منا نسي دمك، وذهب ليمنح دمه للأجنبي.
كن بخير هناك،
سنلتقي يومًا ما، وأرجو أن نلتقي حينها ورؤوسنا مرفوعة.

؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى