
المشهدية السورية من الملاهي الليلية إلى “التيك توك”
بعد دقائق، تخرج امرأة فاتنة، ترتدي ثياباً براقة، وتجلس بجواره. يسألها بصوت خافت: “تمكنتي من رؤية ابنك؟” تهز رأسها نفياً. من كلماتها المقتضبة، أفهم أنها أمٌ حُرمت من طفلها بعد أن انتزعه زوجها الضابط عنوة من حياتها، طردها من قريتها، فوجدت ملجأها الوحيد في دمشق.
في هذا الوقت المتأخر، المدينة تبدو كأنها تهمس بسرّها لمن يصغي… وأبو محمود، بسيجارته المشتعلة، يدرك جيداً أن كل راكب في سيارته يحمل قصة، بعضها يُروى، وأكثرها يُكتم بين ضجيج المحرك وصوت الست الذي يُعيد تكرار الشجن الأبدي ذاته.
سرايا الدفاع
يسود الصمت داخل السيارة، أتعاطف مع قصتها لكنني أعجز عن قول شيء. نصل إلى حي “الشعلان”، حيث تترجل بهدوء أمام ملهى ليلي، تطلب من أبو محمود أن يعود لأخذها عند الخامسة صباحاً، ثم تغلق الباب خلفها.
لم تكن الظاهرة جديدة، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، فتحت الأجهزة الأمنية مئات الملاهي الليلية من دون غطاء قانوني، مسهلةً انتشار هذه التجارة تحت رعاية نافذين في السلطة.
خلال التسعينيات، شهدت دمشق انتعاشاً في هذا المجال مع قدوم العراقيين الهاربين من جحيم الحرب، تماماً كما استقبلت الموجة اللبنانية أيام الحرب الأهلية هناك.
ومن المفارقات، أن أحد المطاعم الفاخرة الذي يعتلي فندق “سميراميس” ظل شاهداً على جريمة مروعة، حيث ألقى ضابط من سرايا الدفاع قنبلة على المغنية السورية سحر المقلي -الزوجة الأولى لخالد تاجا- بعد أن رفضت تأدية أغنية طلبها، مما أدى إلى مقتلها مع فرقتها الموسيقية. حادثة واحدة فقط من سجل طويل من العنف والقهر، حيث امتزجت السلطة بالجريمة، والمال بالحرب، والموسيقى بالصمت الأبدي.
تيك توك..
اليوم، يُغلق باب الملهى الليلي من جديد، لكن هذه المرة بالشمع الأحمر، بقرار من النظام الجديد، في الخارج تترقب النساء اللاتي اعتدن انتظار الزبائن على الأرصفة مصيراً مجهولاً، بعدما كانت 100 دولار كافية للصعود إلى سيارة أحدهم، في اقتصاد انهار ولم يترك لهن سوى النجاة بأي وسيلة.
أما تلك المرأة، فقد تغيرت حياتها تمامًا.
زواج المتعة
لم تغب تلك المرأة عن بالي، فقد بدت لي مادة دسمة لعمل درامي عن زمن الحرب. أسأل أبو محمود عنها، فيجيبني بأنها تزوجت.
إنه تحوّل جديد في المشهد السوري، حيث بات الفقر والعوز وانعدام الأمان العامل المشترك الوحيد بين الجميع.
لكن الصورة سرعان ما تتبدل.. يقطع المشهد فتاة أخرى، مؤثرة سورية تتجول في شوارع دمشق على ظهر حصان، بعد أن فرضت “المهنة الجديدة” واقعاً مختلفاُ. تبدلت أدوار النساء بين زمن الحرب وما بعدها، وإن تغيّرت أساليبه من ظلام الفنادق إلى وهج منصات التواصل الاجتماعي.



