المشهدية السورية من الملاهي الليلية إلى “التيك توك”

الساعة تشير إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل، اللحظة المثالية لإنهاء كأس النبيذ الأخير وطلب سيارة أجرة تقلني إلى المنزل. كعادتي، لا أتردد في الاتصال بأبو محمود، سائق التاكسي الذي يحمل في صوته وصمته تاريخاً من الألم والمواقف الحادة.
لمن لا يعرفه، أبو محمود ليس مجرد سائق، بل هو معارض شرس للنظام البائد، لدرجة أن من يلتقيه لأول مرة قد يظنه مخبراً يحاول استدراجه. لكن سجله الحافل بالاعتقالات يؤكد العكس. فقد بيته في ريف دمشق عندما سقطت عليه براميل النظام، ليجد نفسه مجبراً على العيش مع أسرته في غرفة واحدة بحي الشيخ سعد في المزة.
داخل السيارة، تصدح أم كلثوم بصوتها العذب: “عودت عيني على رؤياك”. تملأ الأغنية الشوارع الدمشقية المظلمة، فتُضفي على الليل مسحة من الحنين والأسى. يعرف أبو محمود جيداً عادات زبائنه، لذا لم يتردد في سؤالي إن كنت أرغب في مرافقته إلى سوق مدحت باشا، حيث عليه اصطحاب زبونة من فندق عربي قديم. لا أمانع.. فالليل في دمشق يحمل دائماً حكايات تستحق الاستماع.

بعد دقائق، تخرج امرأة فاتنة، ترتدي ثياباً براقة، وتجلس بجواره. يسألها بصوت خافت: “تمكنتي من رؤية ابنك؟” تهز رأسها نفياً. من كلماتها المقتضبة، أفهم أنها أمٌ حُرمت من طفلها بعد أن انتزعه زوجها الضابط عنوة من حياتها، طردها من قريتها، فوجدت ملجأها الوحيد في دمشق.
في هذا الوقت المتأخر، المدينة تبدو كأنها تهمس بسرّها لمن يصغي… وأبو محمود، بسيجارته المشتعلة، يدرك جيداً أن كل راكب في سيارته يحمل قصة، بعضها يُروى، وأكثرها يُكتم بين ضجيج المحرك وصوت الست الذي يُعيد تكرار الشجن الأبدي ذاته.

سرايا الدفاع
يسود الصمت داخل السيارة، أتعاطف مع قصتها لكنني أعجز عن قول شيء. نصل إلى حي “الشعلان”، حيث تترجل بهدوء أمام ملهى ليلي، تطلب من أبو محمود أن يعود لأخذها عند الخامسة صباحاً، ثم تغلق الباب خلفها.

مشهد متكرر لنساء وجدن أنفسهن عالقات بين الحاجة والضياع، في بلد أنهكته الحرب وحولت الدعارة إلى مهنة رائجة، لا سيما في ظل النظام البائد.
لم تكن الظاهرة جديدة، فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، فتحت الأجهزة الأمنية مئات الملاهي الليلية من دون غطاء قانوني، مسهلةً انتشار هذه التجارة تحت رعاية نافذين في السلطة.
ومع تراجع الاقتصاد وظهور شريحة التجار المافيويين ورجال الأعمال النيوليبراليين الجدد، أصبحت الدعارة جزءاً من مشهد الترف المصطنع، وسلاحاً لتعزيز النفوذ والاستعراض.

خلال التسعينيات، شهدت دمشق انتعاشاً في هذا المجال مع قدوم العراقيين الهاربين من جحيم الحرب، تماماً كما استقبلت الموجة اللبنانية أيام الحرب الأهلية هناك.

وفي زمن الحرب السورية، تحولت المهنة إلى شبكة معقدة تُدار في العلن، تدرّ الأموال على من يحكم قبضته على اقتصاد الظل في البلاد.
ومن المفارقات، أن أحد المطاعم الفاخرة الذي يعتلي فندق “سميراميس” ظل شاهداً على جريمة مروعة، حيث ألقى ضابط من سرايا الدفاع قنبلة على المغنية السورية سحر المقلي -الزوجة الأولى لخالد تاجا- بعد أن رفضت تأدية أغنية طلبها، مما أدى إلى مقتلها مع فرقتها الموسيقية. حادثة واحدة فقط من سجل طويل من العنف والقهر، حيث امتزجت السلطة بالجريمة، والمال بالحرب، والموسيقى بالصمت الأبدي.

تيك توك..
اليوم، يُغلق باب الملهى الليلي من جديد، لكن هذه المرة بالشمع الأحمر، بقرار من النظام الجديد، في الخارج تترقب النساء اللاتي اعتدن انتظار الزبائن على الأرصفة مصيراً مجهولاً، بعدما كانت 100 دولار كافية للصعود إلى سيارة أحدهم، في اقتصاد انهار ولم يترك لهن سوى النجاة بأي وسيلة.
أما تلك المرأة، فقد تغيرت حياتها تمامًا.

استعادت ابنها، هرب زوجها، وتحولت إلى “مؤثرة” سورية على تيك توك، حيث وجدت في المنصة مهرباً جديداً، كما فعلت كثيرات غيرها.
بين فيديوهات الرقص، والتحديات الساذجة، والمحتوى الفارغ، أصبح التأثير الرقمي مهنة بديلة، لا تتطلب سوى هاتف وكاميرا، لكنها تدر أرباحاً لم تكن تحلم بها أيام التجوال بين النوادي الليلية… في مشهد يعكس تحول اجتماعي جديد في المشهدية السورية

زواج المتعة
لم تغب تلك المرأة عن بالي، فقد بدت لي مادة دسمة لعمل درامي عن زمن الحرب. أسأل أبو محمود عنها، فيجيبني بأنها تزوجت.

أشعر بالغبطة للحظة، لكن فرحتي تتلاشى سريعاً حين يخبرني أن زواجها كان زواج متعة، للمرة الخامسة، مع أحد عناصر الميليشيات الإيرانية التي توافدت على البلاد خلال الحرب.
حالها كحال معظم الفتيات اللواتي سكنّ الفندق ذاته، حيث كان المال يتدفق عليهن وفقاً لرواية أبو محمود، بقدر ما كان يتدفق عليهن الزبائن.
إنه تحوّل جديد في المشهد السوري، حيث بات الفقر والعوز وانعدام الأمان العامل المشترك الوحيد بين الجميع.
تصاعدت حالات الخطف والقتل، حتى أصبح من الطبيعي أن يشهد الشارع السوري جريمة يومية، كأن الموت جزء من تفاصيل المدينة لا يمكن محوه.
لكن الصورة سرعان ما تتبدل.. يقطع المشهد فتاة أخرى، مؤثرة سورية تتجول في شوارع دمشق على ظهر حصان، بعد أن فرضت “المهنة الجديدة” واقعاً مختلفاُ. تبدلت أدوار النساء بين زمن الحرب وما بعدها، وإن تغيّرت أساليبه من ظلام الفنادق إلى وهج منصات التواصل الاجتماعي.
؟
دمشق – المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى