“الهروب من الجحيم: حكاية الناجين من وادي العزيب” علي فجر المحمد

في صحراء وادي العزيب، حيث لا ظلّ ولا مأوى سوى الرمل ولهيب الشمس، كان أبو القاسم يفرش الأرض لأطفاله وينظر نحو السماء، علّها تحمل بشرى تفتح لهم أبواب النجاة. لم يكن وحده. عشرة آلاف روح، بينهم مرضى ونساء حوامل وأطفال، تجمّعوا عند تخوم الأمل، بعد أن أطبقت نار الحرب على ناحية عقيربات، شرقي حماة، وأغلق تنظيم الدولة والنظام كل الطرق في وجوههم.

مرت عشرون ليلة على أبو القاسم في هذا الوادي، ينام على الرمل، ويتقاسم الماء مع جيرانه، ويشاهد الجثث تُدفن في صمت وعلى عجل وبلا تجمعات، يصلون عليها صلاة سريعة ومن بضع رجال فقط خشية أن يراهم الطيران. امرأة حامل قضت وهي تلد، لا طبيب ولا قابلة ولا حتى ماء نظيف. رجل دفن ابنه الرضيع الذي جفّ من العطش. ومئات العائلات كانت تنام وهي تحلم بممرّ آمن، وعيونها لا تغمض خوفاً من قصف مفاجئ أو لغم مدفون.

يقول أبو القاسم: “رأينا الموت في كل ليلة. المفاوضات كانت وهماً. كنا سلعة منتهية الصلاحية، تُركنا نموت في العراء”.

كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين اتخذ قراره. لم يعد يستطيع الانتظار. سيحاول الخروج، ولو كان الثمن حياته. حمل أحد أطفاله على كتفه، بينما لحقت به زوجته وثلاثة من أطفاله في مجموعة أخرى. كل عائلة تباعدت عن الأخرى، خوفاً من لغم يقتلهم دفعة واحدة.

ساروا اثني عشر كيلومتراً في صمت، يُقاطعهم بين حين وآخر صوت ارتطام الحجارة بالأرض، أو بكاء طفل منهك. رافقهم الخوف والعرق وذكريات منازلهم التي صارت ركاماً.

وصل أبو القاسم إلى بلدة سرحا مع بزوغ الفجر. تنفس الصعداء، لكنه لم يفرح. لم تكن زوجته وأطفاله معه. توقف ليحمل جسده المثقل بالقلق، وراح يسأل ويترقب أي خبر عنهم.

بعد يومين، وصلته رسالة من صديق: “هم بخير.. وسيحاولون العبور الأربعاء”. لكن منذ تلك اللحظة، لم يصله أي خبر جديد. ويقول بصوت منخفض: “أعيش على أعصابي. لا أعرف من يُطعمهم أو يُسقيهم. التنظيم كان يعطي طعاماً لا يشبع طفلاً، والماء يحتاج ليوم انتظار”.

ورغم كل ذلك، يعتبر أبو القاسم نفسه من المحظوظين. فقد استطاع الوصول إلى مناطق المعارضة في الشمال، حيث استقبله صديق وفتح له بيته، بل وبنى له خيمة صغيرة قُرب داره. يقول بابتسامة باهتة: “الناس هنا أهل كرم.. وأخيراً شعرت أنني حر.. أدخن 3 علب في اليوم، بعد أن حرمني التنظيم حتى من سيجارتي”.

أما عن الباقين؟ لا يزال قرابة 6000 شخص عالقين في الوادي، ينتظرون معجزة. الطيران دمر قراهم، ولم يبقَ لهم سوى الرمل والصبر، والمجهول.

الناجي أبو القاسم، لم يعد يبحث عن راحة. كل ما يريده الآن، أن يرى زوجته وأطفاله أمامه من جديد، ليبدأ معهم حياة لا يعرف إن كانت ممكنة، لكنّه سيحاول.

 

علي فجر المحمد – مصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى