
عن كتاب الدكتور خالد التركاوي ” نظرية التنمية وإعادة الإعمار في سورية “
سوريا ما بعد الأسد: تحديات هائلة وفرص واعدة على طريق التعافي
دمشق، 7 يونيو 2025 – بعد رحيل نظام الأسد في ديسمبر 2024، تقف سوريا على مفترق طرق، تواجه تحديات اقتصادية وتنموية غير مسبوقة، لكنها تحمل في طياتها فرصًا كبيرة لإعادة البناء والنمو. يكشف الخبير الاقتصادي الدكتور خالد التركاوي في دراسة حديثة عن واقع مؤلم للاقتصاد السوري، لكنه يقدم رؤية متفائلة لمستقبل يمكن أن يعيد البلاد إلى مسار التنمية.
واقع اقتصادي متدهور وتحديات جسيمة
تصف الدراسة الوضع الاقتصادي السوري بـ”المتعب” و”المستهلك للموارد”، مع شعب فقد معظم قدراته الاقتصادية. فمنذ عام 2011، تراجعت كافة المؤشرات الاقتصادية بشكل ملحوظ، باستثناء معدلات الفقر والبطالة التي شهدت ارتفاعًا مخيفًا. وصل الناتج المحلي الإجمالي في تقديرات 2024 إلى 17 مليار دولار فقط مقارنة بـ 67 مليار دولار في 2010، وتدهور متوسط دخل الفرد إلى 600 دولار سنويًا. يعاني البلد من دمار واسع في البنية التحتية والمساكن، وانهيار في الخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه والصحة والتعليم.
تتطلب عملية إعادة الإعمار مليارات الدولارات، حيث تقدر بعض الجهات الحاجة بأكثر من 70 مليار دولار. هذا التمويل الضخم يمثل تحديًا كبيرًا في ظل موارد الموازنة المتواضعة (1.9 مليار دولار في تقديرات 2024). تضاف إلى ذلك تحديات نقص الموارد غير المالية كالمواد الخام والعمالة الماهرة، واستمرار العقوبات الاقتصادية، والتوترات الأمنية والسياسية في مناطق مختلفة من البلاد.
إصلاحات ضرورية لتمهيد الطريق
للانطلاق نحو التنمية، ترى الدراسة أن الإصلاحات المؤسساتية الحكومية أمر حتمي. فسجل سوريا السيئ في مؤشرات الفساد والحرية الاقتصادية وسهولة ممارسة الأعمال يتطلب إعادة هيكلة شاملة للجهاز الحكومي، ووقف الفساد، وتقليل النفقات، وتحسين جودة الخدمات العامة، واتخاذ القرارات بناءً على دراسات وتقييمات مستمرة.
كما تؤكد الدراسة على أهمية تعزيز المشاركة المجتمعية، من خلال الانتخابات المحلية، وإشراك الجالية السورية في الخارج، والتشاور الدائم مع أصحاب المصلحة، وتنظيم مجالس المدارس، وعقد المؤتمرات وورش العمل.
ويلعب القطاع الخاص دورًا محوريًا في التعافي، فهو أكثر كفاءة ومرونة. يتطلب تعزيز دوره إصلاح مخرجات التعليم للتركيز على الجانب المهني والتطبيقي، وتشجيع حاضنات الأعمال، وفتح فرص استثمارية في قطاعات جديدة كالطاقة البديلة، وتوفير بيئة متكاملة تدعم الأعمال من بنوك وتأمين وحل نزاعات.
فرص واعدة في مرحلة ما بعد الحرب
بالرغم من الصورة القاتمة، تبرز العديد من الفرص الاقتصادية الواعدة في سوريا ما بعد الحرب:
الزراعة: تُعد الأقل كلفة لإعادة التأهيل، وتمتلك سوريا 6 ملايين هكتار قابلة للزراعة، بالإضافة إلى عمالة وفيرة. يمكن للقطاع أن يسهم في توفير الغذاء وتصدير الفائض، مع فرص للاستثمار في الثروة الحيوانية وزراعة الأعشاب الطبيعية والزيتون والفستق الحلبي والخضراوات والفواكه.
الصناعة: ينصب التركيز على الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وخاصة في مجال تعليب المواد الغذائية وصناعة النسيج، التي يمكن أن تحرك قطاعات أخرى كالنقل والتخزين.
الاستثمار في البنية التحتية: الدمار الواسع يفتح الباب أمام فرص ضخمة في إعادة تأهيل وبناء الموانئ السورية (اللاذقية، طرطوس، بانياس)، وتطوير النقل البحري، وإعادة تفعيل المطارات المدنية (دمشق، حلب، اللاذقية، دير الزور)، وإنشاء طريق سريع يربط تركيا بدمشق وعمان.
العقارات: يقدر حجم سوق العقارات بعد الدمار الهائل بـ 60 مليار دولار، مع حاجة مليونين مسكن للترميم أو إعادة البناء لتلبية طلب 10 ملايين شخص من العائدين والنازحين داخليًا.
الصناعات الدوائية: تمتلك سوريا بنية جيدة في هذا القطاع، والحاجة المتزايدة للأدوية تجعلها فرصة استثمارية هامة.
الصناعة العسكرية: شهدت سوريا تطورًا في التصنيع العسكري خلال الحرب، وهناك إمكانية لتطوير صناعات الطيران المسير والمستهلكات العسكرية الخفيفة.
السياحة: بفضل تنوعها الجغرافي ومعالمها التاريخية والدينية، يمكن أن تجذب سوريا ملايين الزوار، وخاصة من السوريين في الخارج، وحتى من المهتمين بـ”سياحة الحرب”.
التخطيط الإقليمي والتنظيم العمراني
تقترح الدراسة اعتماد التخطيط الإقليمي بدلاً من الإداري التقليدي، بتقسيم سوريا إلى أقاليم (الشمال، دمشق الكبرى، الوسط، الشرق، الجنوب، الساحل، البادية)، لكل منها خصائصه الاقتصادية والطائفية والديمغرافية، مما يعزز التنافسية والتعاون بين الطوائف والإثنيات.
كما يُعد التنظيم العمراني السليم مدخلاً للسلم الأهلي وإعادة الإعمار، من خلال إنهاء العشوائيات، وتأسيس بيئة مريحة للمدن، والتعامل معها كمراكز عمل وسكن، والاعتماد على العمارة التقليدية الدمشقية التي توفر في مواد البناء.
تحديات رفع العقوبات وتأثيرها على الليرة السورية
أما بالنسبة لرفع العقوبات، فترى الدراسة أنه عملية تراكمية قد تستغرق من 3 إلى 5 سنوات، وتعتمد على تلبية شروط دولية كبرى، أبرزها الابتعاد عن إيران وحلفائها، ووقف عمليات القتل والتهجير، والتخلي عن الاصطفاف مع روسيا، ومكافحة المخدرات، وتحسين العلاقة مع دول الجوار.
فيما يخص الليرة السورية، التي شهدت تدهورًا كبيرًا، تطرح الدراسة فكرة استبدال العملة كحل لمشكلة نقص السيولة، والتخلص من صور ورموز النظام السابق، وكشف الأموال المسروقة. تستعرض تجارب دول كالهند وليبيا والعراق وتركيا في تغيير العملة، وتؤكد أن هذه الخطوة، رغم تحدياتها اللوجستية والاقتصادية، يمكن أن تحقق فوائد جمة في التحول نحو نظام رقمي، وتعزيز الشفافية، وتنشيط الاقتصاد.
في الختام، يرى الدكتور التركاوي أن سوريا تواجه واقعًا اقتصاديًا معقدًا، لكن تجاوز التحديات والاستفادة من الفرص يتطلب إصلاحات شاملة في المؤسسات، وتعزيز المشاركة المجتمعية، ودعم القطاع الخاص، وتبني تخطيط إقليمي وتنظيم عمراني مدروس، بالإضافة إلى التعامل بحكمة مع ملف العقوبات وإعادة تقييم العملة الوطنية.



