
من حافظ الأسد إلى أكرم سليم: بطل سوري في مسلسل بريطاني … راشد عيسى
يدخل رجل إلى دائرة شرطية بريطانية مختصة بالتحقيق الجنائي باحثاً عن عمل، ترفضه المديرة على الفور، وتسأل موظفةً لديها عن الكيفية التي دخل بها هذا الشخص أساساً إلى المكان، فتردّ بأن الجواب يكمن في طبق الحلويات أمامها، وتقصد أنها هي (الموظفة) من سمح له بالدخول مقابل هذا العطاء اللطيف.
سيشعر المرء (المشاهد) أن مَن صَنَعَ هذا المشهد الافتتاحي لشخصية سورية في مسلسل بريطاني لديه خبرة كافية عن أحوال السوريين. سيقول لا بدّ أن يكون الكاتب، المُعِدّ، سورياً ليستخدم هذا التفصيل. فهذه واحدة من شيم السوريين اللطيفة (اللاجئين خصوصاً)، حملوها معهم إلى منافيهم، وقبل أن يفتتحوا مطاعمهم في باريس، وشارع العرب أو سواه في برلين، وفي لندن، أو يسمي بعضُهم مشاريع ثقافية تحمل أسماء أعزّ أطباقهم، لا شك أنهم قدموا طبقاً للجيران، ولا شك أيضاً أنهم لمسوا صدمة هؤلاء، قبل فرحتهم، بالطبق الذي دونه، عادةً، أطباق الفضاء.
عند البحث عن صنّاع مسلسل»Dept. Q» على «نتفليكس» لن نجد اسماً يحيل إلى أصل عربي، لكن العمل مبنيّ على سلسلة روايات دنماركية بالاسم نفسه من تأليف الكاتب جوسي أدلر-أولسن، والمعروفة بكونها من روائع أدب الجريمة، ويبدو أن نسخة نتفليكس معدّة لبيئة جديدة تلائم البيئة البريطانية الإسكتلندية. أما الشخصية السورية، الرجل الباحث عن عمل، بل المطرود والمحروم من فرصة عمل، فهو متحوّر عن شخصية في الأصل الدانمركي تحمل، ويا للمفاجأة، اسم حافظ الأسد.
لا تفصح محركات البحث عن أي معنى لاسم حافظ الأسد، سَمِيّ الطاغية السوري الراحل، في سلسلة الحكايات الدانمركية، فليس الاسم شائعاً، بل يكاد يكون فريداً تماماً، ووجود اسمه لن يكون سوى إرباك للحكاية. وربما لهذا السبب استدرك المسلسل، المعروض حالياً على نتفليكس بثماني حلقات، فحذف الاسم البغيض، وبات اسمه منذ اللحظة: أكرم سليم.
غريزتان
في الدائرة الشرطية هناك محقق مشاكس، مغرور، عقدة التفوق لديه طافحة ومؤذية، يُفتتَح له قسم كطريقة لاستبعاده، سيحمل قسمه اسم «القضايا غير المحلولة»، وسيُلقى وحيداً في مكان للكراكيب، وكان سابقاً تواليتات، يبدأ هذا المحقق، واسمه كارل، بالنق لإرسال أحد ما يساعده، وهنا تعود مديرة الدائرة إلى السوري أكرم سليم، الذي طرد للتو، ليساعده في ترتيب المكان ليس إلا.
لكن اللاجئ السياسي السوري (كما سنعرف لاحقاً) شرطي سابق، عمل في مناطق خطرة في سوريا، على ما يقول، ويبدو أنه، في عمله الجديد، ستتحكم به غريزتان؛ رغبته العارمة كشخص اقتلع من مكان لمدّ جذوره في المكان الجديد، ليثبت فيه ذاته، ومن ثم تجربته في مكان خطر التي تجعله محققاً يقظاً، وأن يبدو، بالقدر ذاته، رجلاً قوي المراس.
ومَن مثله، لن يقنع بدور صبي المكتب، أو عامل التنظيفات، وبعينيه الذكيتين المجرّبتين سيقترح على رئيسه، المحقق الذكي المتفوق المضيّع بالغرور وقلة الأدب، واحدة من القضايا المغلقة، والتي لم يتم حلها، سيقدم له قضية مدعية عامة اختفت منذ 4 سنوات، وسيصل قسم القضايا غير المحلولة إلى مكان إخفائها، وينقذها في الحلقة الأخيرة، بعد فقدان الأمل من عودتها.
عناصر ليست «إرهابية»
ما بين إلقاء الملف اليائس على الطاولة، والعثور على الضحية في حجرة ضغط في مكان شبه مهجور، سيكون الدور الأكبر للاجئ السوري في حل ألغاز الجريمة، لغزاً وراء لغز، سيبدو هو المحرك الحقيقي للأحداث، من دون أن يبدو أن الكاميرا تتصرف إزاءه كبطل، فالبطولة للمحقق كارل، وبدرجة أخرى للمحققة – المدعية الضحية، أما أكرم السوري (يؤديه أليكسي مانفيالوف) فلا هو راغب بالضوء، ولا الكاميرا وضعته في مكان ساطع، وهذا لا يمكن أن يكون اعتباطياً، ولطالما تصورت، أثناء المشاهدة، أن كثيرين من نجوم التمثيل السوري لو كانوا في مكان هذه الشخصية، لملأوها بـ «البوزات» والصفنات، ومحاولات سرقة الكاميرا، ولا أخفي أنني حاولت بالفعل أن أضع مكان الشخصية كلاً من تيم حسن، وباسل خياط، وأنس طيارة، أو جوان الخضر (المحقق في مسلسل «تحت سابع أرض»).
بإمكان المرء أن يتجرأ على القول إن البطل الحقيقي للمسلسل هو الممثل الذي لعب دور اللاجئ السوري. اللاجئ السوري هو حقاً بطل المسلسل، وقلما تجد إنصافاً لشخصية من شرقنا المنكوب في سينما الغرب ومسلسلاته، كما تجده في هذا العمل. مع العلم أن المسلسل لا يخفي هوية أكرم سليم الدينية أيضاً، إلى جانب هويته كلاجئ، فهو لا يتردد في أن يفتح سجادته للصلاة حتى في العمل، وسنراه لاحقاً يساوم رئيسه كي لا يقطع عليه صلاته. سجادة الصلاة، والصلاة نفسها، والمسبحة في الجيب، هذه المرة ليست عناصر «إرهابية»، كل هذا يكاد يكون دفاعاً خفيض الصوت، هامساً، عن اللاجئ السوري في هذه البلاد، في وقت عانى كثيراً من وصمة الإرهاب، وأشياء أخرى.
لا زيادة ولا استفاضة في رسم هذه الشخصية في مسلسل الجريمة، تبحث أحياناً عن البعد الشخصي، عن سيرة الحياة الواقعة وراء الدور، ستجد أن سيرته مبثوثة في عبارات سريعة وعابرة هنا وهناك بين جنبات العمل. نعرف من أين جاءت مسحة الأسى على وجهه، إذ يبدو أن لموت زوجته في سوريا أثراً باقياً عنده. المسلسل ليس سياسياً على الإطلاق، ومع ذلك لم يفتْه أن يمرر ماضي هذه الشخصية دون أن يثقل على المشاهد، فإذا كان الأخير معنياً بتفكيك الجريمة وحدها، شغوفاً بالحبكة البوليسية وحسب، لن تعنيه كثيراً تفاصيل الشخصية السورية وأبعادها، لكن ذلك من شأنه أن يمنح الشخصية عمقاً، تماماً مثلما رأينا العطب النفسي الذي يعيشه المحقق كارل.
لكن تصور لو أن شخصية اللاجئ السوري النزيه والمثابر بقيت محتفظة باسمها كما ورد في الأصل الدانمركي: حافظ الأسد. كان من شأن هذا التفصيل وحده أن يقلب «Dept. Q» إلى أضحوكة.
* كاتب من أسرة «القدس العربي»



