حين يفشل الكاريكاتير في أن يكون نقدًا .. غطفان غنوم

لسنا بحاجة إلى التذكير بأن كل عمل فني قابل للنقاش، فهذه بديهية لا تمنح أي عمل حصانة من النقد. والتقبّل هنا لا يعني الموافقة أو الإعجاب، بل يعني الاعتراف بشرعية الطرح دون أن يُمنح بالضرورة شرعية المضمون. ومن هذا المنطلق، يصبح من المشروع تمامًا أن نقول: إن الكاريكاتير الذي قدّمه يوسف عبدلكي حول الهوية البصرية السورية ليس مجرد تعبير ساخر، بل طرحٌ متهافتٌ أيديولوجيًا وفقيرٌ بصريًا، يستبدل التحليل بالتحامل، ويقدّم صورة مشوّهة تخلط بين رمزية الدولة وخطاب السلطة، دون أي محاولة لفهم السياق التصميمي أو الرمزي الذي جاءت فيه هذه الهوية.
ما يطرحه عبدلكي ليس نقدًا، بل حكمًا جاهزًا مغلّفًا بالسخرية. إنه لا يتساءل عن منطق الهوية أو معانيها أو علاقتها بالذاكرة الجمعية، بل يستخدمها فقط كذريعة لاستعراض موقف سياسي، في تسطيح واضح لوظيفة الفن ودوره في قراءة التحولات الرمزية. نحن لا نُدافع هنا عن “الهوية البصرية” بوصفها منجزًا مكتملًا، بل ننتقد اختزالها بهذا الشكل المُشين، حيث تُسحق تحت ثقل اللحية، كالذيل، والأجنحة السوداء، في إعادة تدوير رخيصة للرموز النمطية التي لم تعد تصدم أحدًا.
في الرسم الكاريكاتيري الذي قدّمه الفنان يوسف عبدلكي، يظهر ما يُفترض أنه تعبير ساخر عن “الهوية البصرية السورية” الجديدة، من خلال تصويرها في هيئة كائن غريب: رجل ملتحٍ ذو أجنحة سوداء واللحية كذيل طويل ملتف، أشبه بمسخٍ يحاكي صورة الظلام والرجعية. تحت هذا التكوين المشحون، يظهر العنوان ساخرًا: “الهوية البصرية السورية”.
لكن ما يبدو في الظاهر كنقد بصري، من وجهة نظري، قد لا يتجاوز في حقيقته كونه تجنيًا اختزاليًا ورد فعل أيديولوجيًا أكثر من كونه تحليلًا بصريًا أو ثقافيًا متماسكًا.
فالكاريكاتير لا يناقش مضمون الهوية البصرية التي طُرحت (والتي كانت محاولة لإعادة تنظيم التصميم الرسمي والرموز والألوان والخطوط المستخدمة في المطبوعات الرسمية)،
كما فعل كثيرون من المهتمين والناشطين رغم رفضهم له جماليا أو دلاليا، وهذا حقهم الذي لا يختلف حوله أحد.
لكنه يذهب من خلال الكاريكاتير إلى تحميل المشروع برمته دلالات دينية رجعية، متجاهلًا السياق المهني والتقني الذي جاءت فيه هذه الهوية.
والسؤال هنا، هل السخرية تصنع نقدًا؟
السخرية ليست بحد ذاتها نقدًا، لكنها أداة تعبير نقدي، قد تُستخدم من أجل الكشف عن مفارقة أو خلل، أو قد تنزلق إلى ما هو مجرد استهزاء .
ولعلّ الفارق الأساسي بين السخرية المنتجة والنقد الزائف، يكمن في ما إذا كانت السخرية مدفوعة بتفكير نقدي أم محمولة على موقف أيديولوجي مسبق.
حين تكون السخرية مؤطرة برؤية أيديولوجية مغلقة، فإنها تتحوّل إلى إعادة إنتاج للانقسام لا تفكيكه.
فبدلًا من أن تحفّز التفكير، تعيد تأكيد ما يعتقده صنف معين من الجمهور يتفق سلفا مع رؤية الفنان، وتجعل العمل أشبه بخطبة شعاراتية مرسومة، لا بمداخلة فكرية.
هنا تفشل السخرية في أن تكون نقدًا، لأنها لا تنتج معرفة، بل تكتفي بتأكيد انتماء سياسي أو أيديولوجي
في هذا الكاركاتير إن كل ما فعله الفنان هو استحضار صورة نمطية لمُلتحٍ بثياب دينية وملامح “شيطانية” ليجعل منها كناية عن السلطة الحالية ومؤيديها، ثم لصق بها تعسفيًا عنوان “الهوية البصرية السورية”.
الخطورة من وجهة نظري أن هذا النوع من الكاريكاتير لا يُمارس نقدًا حقيقيًا، بل يُنتج ردود فعل انفعالية، متخليًا عن المهمة الأساسية لفن الكاريكاتير: تسليط الضوء على التناقض، لا خلق كاريكاتور من واقع لم يُفهم أصلًا.
نعم، الفنّان يملك الحق في التعبير، ولكن هذا لا يعفيه من مسؤولية الدقة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى