
تخاريف فلسطينية: السنوار انتحر.. و7 أكتوبر جاء بالاتفاق مع إسرائيل … راشد عيسى
لا أعرف مَن هو بالضبط مِن قيادات حركة «فتح» صاحب المقولة التاريخية: «دعوا كل الزهور تتفتح في حدائق فتح»، لكن ما أعرفه هو أن العبارة جاءت على سبيل تفسير وجود تيارات عديدة فيها، يصعب أن تجدها مجتمعة في تنظيم أو حزب واحد، إذ كانت الحركة تضم تياراً عريضاً من ذوي الميول الإسلامية، أو القومية، بمقدار ما تضم من أصوات اليسار، على الأقل في حقبة سالفة.
أتذكر ذلك فيما أشاهد مقابلة تلفزيونية مع عضو المجلس الوطني الفلسطيني، والسفير السابق والقيادي الفتحاوي أسامة العلي، وأستمع إلى تصريحاته المدوِّخة بخصوص غزة، وما جرى لها منذ السابع من أكتوبر 2023، فمن الحركة نفسها اشتُهر صوتٌ، منذ بداية حرب الإبادة، هو السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط، الذي يمكن اعتباره الصوت النقيض لصوت العلي، إذ ظهر (العلي)، منذ أيام، في برنامج «قابل للجدل» على شاشة «العربية».
كل عبارة في المقابلة هي عنوان فاقع يذهل سامعيه، بدءاً من القول إن «حماس فخر الصناعة الإسرائيلية»، إلى أن «كل ما يحدث في غزة هو ترتيبات بين الإخوان المسلمين وإسرائيل»، و»إسرائيل سلّمت كتائب القسام وسرايا القدس في جنين السلاح»، وليس ختاماً بـ «ولا قطعة سلاح دخلت الضفة إلا من خلال الشاباك والموساد».
للرجل، أسامة العلي، نظرية «متعوب عليها»، فبحسبه، سألت مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء البريطانية للفترة من 1979 إلى 1990، الإسرائيليين، أيام رئاسة إسحق شامير للحكومة: «هل لديكم إخوان مسلمون؟ استعملوهم». وعلى ما يبدو، فقد فطن الإسرائيليون إلى ما كان غائباً عن بالهم آنذاك، فقرروا تصنيع «حماس»، بحسب نظرية العلي.
نصيحة للرئيس
اعتبر أسامة العلي أن السابع من أكتوبر، أي هجوم «حماس» الذي أطلقت عليه اسم «طوفان الأقصى»، جاء بتنسيق بين تل أبيب و»حركة المقاومة الإسلامية»، أي أن إسرائيل التي لا تطيق أن يخطَف إسرائيلي واحد في العالم، وكانت تقيم الدنيا ولا تقعدها حتى من أجل رفاة جندي، أو أثر لإسرائيلي، تتواطأ اليوم بخطف وقتل وإصابة مئات الإسرائيليين، لتصل إلى هدفها الأعلى بسحق غزة، على نحو ما شاهدنا خلال عامين سابقين. نظريةُ مؤامرة تشبه أن يقال إن هجوم 11 سبتمبر أيلول في الولايات المتحدة إنما ارتكبه يهودٌ لتوريط الولايات المتحدة (وعلى كلام العلي لا يستبعد أن يكون بالتنسيق مع واشنطن من أجل غزو أفغانستان والعراق!).
يحاول العلي إثبات سرديته باتهام قيادات الفصائل الفلسطينية بأنها خرجت وعائلاتها من القطاع تفادياً للمصير الذي حل بأهلها لاحقاً (بالمناسبة؛ هناك تأكيدات أن بعضاً من قيادة حماس نفسها، خصوصاً في الخارج، لم يكونوا على علم بما يحدث، لضمان سرية الهجوم).
ثم يصل إلى القول إن يحيى السنوار لم يقتل إنما انتحر، رواية لم يجر توضيحها، بل نَقَضَها برواية تقول إن الرجل أخرج عائلته خارج القطاع، وكان ينتظر قرب الحدود إشارة ليلحق بها. غير أن نتنياهو رَصَدَه، حَدَّدَ موقعه، وهنا يتساءل العلي: لماذا لم يعتقله نتنياهو وهو كنز من الأسرار؟! بل إن بإمكانه أن يقايض به! لكنه قرر قتله كي لا ينفضح الاتفاق.
إثبات آخر يسوقه القيادي الفلسطيني لدعم فرضيته عندما يقول إنه حتى التلكؤ بالتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ما هو إلا مسرحية، فعندما تذعن «حماس» ترفض إسرائيل، وعندما توافق الأخيرة تعاند «حماس».
لا يترك أسامة العلي شتيمة أو اتهاماً للحركة إلا ويتلفظ به، معتبراً إياهم «شواذ فلسطين»، «جواسيس»، «خونة فلسطين»، «بيعرفوش يعدوا للعشرة»، واضعاً إياهم «مئة بالمئة» في خانة إسرائيل. مستذكراً نصيحته للرئيس أبو مازن إثر انقلاب «حماس» على السلطة العام 2007، بأن يتركهم وشأنهم، من دون رواتب ولا جوازات سفر أو سجل مدني «كي نرى كيف سيتدبرون أمورهم»، لكن أبو مازن لم يسمع النصيحة، رافضاً التخلي عن جزء من شعبه. يبدو أن اللواء الفلسطيني الطيار، وهذه واحدة من وظائف أسامة العلي السابقة، عاتبٌ على الرئيس أنه لم يبادر مبكراً لإبادة جزء «عاق» من شعبه.
زهور سامة
قرأنا منذ أيام تحقيقاً ممتازاً لموقع بريطاني يكشف أن رويترز، وكالة الأنباء الشهيرة التي يتابعها يومياً مليار شخص حول العالم، «تتبع سياسة تحريرية منحازة لإسرائيل في تغطية الإبادة بغزة»، ومن بين ما أورده التحقيق من شواهد كيف نشرت الوكالة خبر استشهاد الصحافي الفلسطيني اللامع أنس الشريف، عندما عنونتْ: «إسرائيل تقتل صحافياً في قناة الجزيرة تزعم أنه قيادي في حماس». فمن الواضح مهنياً أن العنوان أراد أن يغطي فظاعة الخبر «قتل صحافي» بـ «تهمة الانتماء إلى حماس»، حتى ولو على سبيل الزعم، فهذه ستكون أكبر هدية للقارئ المنحاز سلفاً، والذي يريد أي ذريعة بين يديه يسكت بها ضميره، قبل أن يحاجج العالم.
لماذا نذهب بعيداً، لقد كرّس رفيق درب أسامة العلي في حركة «فتح» حسام زملط محاججةً ولا أروع، حين ظلّ يعاند محاوريه على شاشات الغرب بأنه يرفض اشتراط إدانة «حماس» قبل الحديث عن الإبادة الإسرائيلية الجارية في القطاع، لا لأن الحركة الإسلامية معصومة عن الخطأ، ولا تستحق الانتقاد، فأخطاؤها متوفرة بكثرة، بل لأن إدانتها في تلك اللحظة كانت تعني شكلاً من أشكال تبرير الإبادة، كان واضحاً للغاية أن الرد الإسرائيلي لم يكن متناسباً، بل كان وحشياً بلا حدود، ولم يعد السؤال محاكمة «حماس»، وبالعكس، أكد زملط في كل مرة أن كل ما تدينون «حماس» بارتكابه تقوم إسرائيل بارتكابه مرات مضاعفة، من دون أن يحاول إعلاميو الغرب إياهم إدانتها.
من أراد أن يتحدث عن زهور شديدة التنوع في حركة «فتح»، في مرحلتها اللبنانية على الأرجح، بنى على مقولة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ، هذا الذي أراد زعم تأكيد حرية التعبير في البلاد. لكن لربما لم يحسب أن بعض الزهور سام ومؤذ، ولا يستحق الجوار.
؟
؟
* كاتب من أسرة «القدس العربي»



