“أطفال تحت الظل”.. كيف اختفى أطفال المعتقلين داخل شبكة الإيداعات الأمنية؟

تلفزيون سوريا – دمشق

عند الحديث عن أطفال المعتقلين، تقول وجد قدور، وهي من أقرباء عائلة الدكتورة رانيا العباسي وواحدة من الشهود القلائل الذين دخلوا مقرات منظمة “قرى الأطفال SOS” بعد تحرير سوريا، كلمات تلخص شعور آلاف العائلات:

“هناك رغبة اليوم لفتح صفحة جديدة تحت عنوان (عفا الله عما مضى)، لكن نحن، ذوي المعتقلين، لا نستطيع ذلك. الشهداء تحت التراب وفي رحمة الله الواسعة، لكن الأطفال الذين غُيبوا في أماكن أخرى، أو عند عائلات مجهولة، فهؤلاء لا يمكن التسامح بشأنهم، هذا خط أحمر، لا يمكن تجاوزه على أي مستوى”.

لم تكن وجد قدور تتوقع أن تكون في قلب واحدة من أعقد الملفات الإنسانية في سوريا، حيث رافقت وفدين رسميين إلى مقرات “قرى الأطفال” في دمشق وريفها، بحثاً عن أي أثر لأطفال الدكتورة رانيا العباسي الستة، المختفين منذ اعتقال والدتهم عام 2013.

تقول وجد “دخلنا، لكن الملفات لم تكن موجودة. كل شيء كان ناقصاً: أسماء مبعثرة، دفاتر غير مكتملة، وأقسام بأكملها بلا أي وثيقة. سألنا الموظفين عن عدد الأطفال الذين استقبلوهم. مرة قالوا 45، مرة قالوا 125، ومرة قالوا 225. كنا نخرج من كل زيارة ولدينا إحساس واحد: في مكان ما، هناك شيء مخفي عن قصد”.

في هذا التقرير الذي أجراه موقع “تلفزيون سوريا” ننتقل من شهادة وجد قدور إلى شبكة أوسع من الوقائع والوثائق، ونتابع مسار الأطفال الذين وصلوا عبر الإيداعات الأمنية إلى “قرى الأطفال” ومراكز أخرى، ونفحص تضارب الأرقام الرسمية مع شهادات موظفين ومسؤولين سابقين، كما نتوقف عند مراكز أُنشئت بعد 2019 بإشراف مباشر من أسماء الأسد، التي تعد الحلقة الأساسية في اختفاء آثار هؤلاء الأطفال.

البداية: الإيداعات الأمنية

مع سقوط نظام الأسد، وبدء المرحلة الانتقالية، برز مجدداً ملف اختفاء أطفال المعتقلين السياسيين. كانت قصص كثيرة تتدفق دفعة واحدة: عائلات تبحث عن أطفال اعتُقلوا مع ذويهم، ومراكز رعاية استقبلت أطفالاً بلا وثائق، ووزارة لا تمتلك سوى أجزاء مبعثرة من أرشيفها، ومنظمات محلية ودولية تتهرب من الإجابة.

في الأسبوع الأول للتحرير، بدأ الحديث رسمياً عن ضرورة فتح ملف الأطفال الذين أودعوا في دور رعاية تحت مسمى “الإيداعات الأمنية”، بعد فصلهم عن ذويهم في الأفرع الأمنية بين 2011 و2024.

بحسب مصادر في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، تبين أن معظم السجلات بين 2013 و2019 كانت مشتتة، ناقصة، أو مفقودة بالكامل، فيما تشير وجد قدور إلى وجود “كمية هائلة من الوثائق والمستندات غير المؤرشفة”، وأن وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لم تكن قادرة على تتبع عدد كبير من حالات الإيداع، خاصة تلك المحالة عبر الأفرع الأمنية مباشرة.

في مراجعة الوثائق والسجلات تبين أن هناك سجلات كاملة لأطفال مجهولي الهوية ضاعت، وأخرى دُمجت، وثالثة ظهرت عليها علامات إزالة متعمدة، فيما تتصاعد مطالبات عائلات المعتقلين والمفقودين بالكشف عن مصير الأطفال الذين نُقلوا إلى مؤسسات مثل “لحن الحياة” و”دار الرحمة” و”قرى الأطفال SOS” وغيرها.

ومع تصاعد الضغط الشعبي بعد التحرير، بدأت تظهر التناقضات بوضوح أكبر: تصريحات رسمية تتحدث عن “أعداد محدودة” من الإيداعات الأمنية، مقابل بيانات من “قرى الأطفال” تنفي وجود أي سجلات قبل 2018، فيما تكشف وثائق منظمات حقوقية مستقلة عن أرقام أكبر وإحالات جرت بشكل مباشر من الأفرع الأمنية إلى دور الرعاية.

تعدد الروايات وغياب أي أرشيف متماسك، وضعا ملف أطفال المعتقلين في قلب معادلة معقدة، حيث كل جهة تملك جزءاً مختلفاً من الحقيقة، ولا أحد يملك الصورة الكاملة.

مراكز احتجاز “إنسانية”

على مدى أكثر من عقد، بقي الدور الذي لعبته منظمة “قرى الأطفال SOS” فرع سوريا في استقبال أطفال بلا وثائق ومعزولين عن عائلاتهم ملفاً غامضاً ومليئاً بالتناقضات، رغم سلسلة البيانات الرسمية، للمنظمة الأم أو الفرع المحلي، التي حاولت التخفيف من حجم المشكلة أو تجنب الإشارة إلى تفاصيلها.

فوفق اعترافات المنظمة الأم والفرع السوري وتحقيقات أجرتها منظمات أخرى، استقبلت الجمعية بين 2013 و2018 عدداً غير محدد بدقة من الأطفال “بدون وثائق كافية”، جرى تحويلهم عبر وزارة الشؤون الاجتماعية والأفرع الأمنية، في واحدة من أوضح القنوات الرسمية التي أُدخل عبرها أطفال مجهولو الهوية إلى مراكز الرعاية.

وتعد الفوضى الرقمية أبرز ملامح هذه القضية، حيث أعلنت “قرى الأطفال” في بيانات 2025 أن عدد الأطفال الذين دخلوا دون توثيق مناسب لا يتجاوز 40 طفلاً، بينما كشف تقرير المنظمة الأم عن 139 طفلاً خلال الفترة نفسها، فيما وثقت تحقيقات سورية مستقلة اختفاء 323 طفلاً في شبكة دور الأيتام، بينما تشير تقديرات الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى وجود 3,700 طفل مفقود منذ 2011 وحتى سقوط نظام الأسد.

الجهة / المصدر العدد
قرى الأطفال (بيانات 2025) – (أطفال دون توثيق) 40
المنظمة الأم – (أطفال داخلون خلال الفترة نفسها) 139
تحقيقات سورية مستقلة – (أطفال مختفون في شبكة دور الأيتام) 323
الشبكة السورية لحقوق الإنسان – (تقدير الأطفال المفقودين منذ 2011 وحتى سقوط النظام) 3,700

الفوارق بين تلك الأرقام لا تعكس تضارباً فحسب، بل تطرح سؤالاً مركزياً حول غياب الشفافية، خصوصاً مع رصد حالات تُظهر تبديل أسماء الأطفال أو تسجيلهم كأيتام رغم أن ذويهم كانوا على قيد الحياة داخل معتقلات ومراكز احتجاز الأفرع الأمنية.

وتشير شهادات المصادر وموظفين سابقين ومسؤولين في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل أن رحلة الطفل تبدأ من لحظة اعتقال عائلته، حيث يصدر الفرع الأمني توصية بالتحفظ عليه، فيُحال الطفل إلى وزارة الشؤون التي تنقله بدورها إلى إحدى الجمعيات: مثل “قرى الأطفال” أو “لحن الحياة” أو “المبرة” وغيرها.

وخلال هذه العمليات لم تكن الوزارة تملك صلاحية التواصل مع أقارب الطفل أو التحقق من وجودهم، كما أكدت شهادات أخرى أن أجهزة نظام الأسد الأمنية منعت بشكل مباشر زيارة الأقارب أو معرفة مكان وجود الأطفال، ومنعت الموظفين من عرض صور ذويهم عليهم، ما جعل هذه الدور تتحول عملياً إلى “مراكز احتجاز إنسانية” تعمل بمعزل عن أي رقابة فعلية.

ووفق الوثائق والسجلات الأمنية فإن إحالات أطفال المعتقلين إلى دور الرعاية خلال السنوات السابقة تمت من خلال إدارة المخابرات الجوية، مع رصد حالات قليلة تعود لأفرع المخابرات العسكرية 227 و235، ومديرية المخابرات العامة الفرع 251.

“قرى الأطفال”: رواية غائبة

بعد العام 2019، وهو الوقت الذي طلبت فيه المنظمة الأم لـ “قرى الأطفال” من فرع سوريا التوقف عن استقبال الأطفال عبر الإحالات الأمنية ظهر اسم مشروع “طريق النحل”، والذي بات محطة نهائية لأطفال نُقلوا من “قرى الأطفال” ومن “لحن الحياة”، وفق شهادات متعددة تشير إلى عدم وجود وثائق رسمية تثبت هوية هؤلاء الأطفال عند تحويلهم، وتورط شخصيات إدارية مرتبطة مباشرة بأسماء الأسد في إدارة هذا المسار.

في روايتها الرسمية، أكدت المنظمة الأم، في بيان لها صدر في 16 كانون الأول 2024، أن الفرع السوري استقبل 139 طفلاً بلا وثائق سليمة، وأعادت 104 منهم إلى أجهزة الشرطة أو الأمن الداخلي أو وزارة الشؤون. ولا توجد معلومات رسمية عن مصير هؤلاء بعد إعادتهم، في ظل غياب محاضر تسليم واضحة أو سجلات متابعة.

ورغم تأكيد الفرع السوري توقف استقبال أي إحالات أمنية منذ عام 2018، إلا أن وثائق مستقلة وشهادات ميدانية أشارت إلى حالات إيداع تمت في 2021 و2022، بينها أطفال عراقيون جرى نقلهم عبر وزارة الشؤون إلى قرى الأطفال، وهو ما ينكره الفرع السوري بالكامل.

خلال عام 2025، بدأت الضغوط الدولية تتصاعد مع فتح تحقيقات داخلية وخارجية، ما دفع سمر دعبول، رئيسة مجلس الإدارة، إلى تقديم استقالتها في أيار 2025 “لضمان الحياد وتسهيل التحقيقات” وفق ادعائها، بينما أصدر الفرع بياناً في 31 تموز 2025 أعلن فيه وقف المدير الوطني سامر خدام عن العمل وتكليف محمد فاتح العباسي بإدارة الفرع مؤقتاً.

وتزامن ذلك مع رسالة رسمية من فرعَي السويد والنمسا، أكبر ممولي فرع المنظمة في سوريا، أعلنت تجميد التمويل مؤقتاً، وذكرت أن 139 طفلاً أودعوا في “قرى الأطفال” دون وثائق مناسبة، 34 فقط أعيدوا لعائلاتهم، وهو ما شكل صدمة مقارنة بالأرقام المحلية.

كما أعلنت المنظمة الأم فتح تحقيق مستقل يشمل الفترة الممتدة بين 2013 و2022، لمراجعة سجلات الإيداعات، وحالات تغيير الأسماء، واختفاء الوثائق، وطبيعة التعاون مع الأجهزة الأمنية.

في تموز 2025، انتشرت معلومات داخلية تفيد بأن الفرع السوري سيتجه نحو الإغلاق الكامل بنهاية 2025، مع إنهاء عقود الموظفين والإبقاء على “نواة صغيرة” لتصفية الملفات الإدارية ونقل الأطفال.

وتضاف إلى ذلك شهادات عديدة تشير إلى فقدان سجلات، وإخفاء أو تمزيق وثائق قبل سقوط النظام، وفوضى في أرشيف الوزارة، وصعوبة وصول لجان التحقيق إلى ملفات “قرى الأطفال” باعتبارها منظمة دولية كانت تتمتع بحماية سياسية مباشرة من القصر الجمهوري خلال سنوات الحرب.

كما أظهرت معلومات متقاطعة دور مراكز رعاية مثل “لحن الحياة” في احتجاز أطفال على صلة بمعتقلين، ومسار تحويلهم لاحقاً إلى مشاريع مرتبطة بأسماء الأسد، إضافة إلى روايات سكان عن وجود أطفال مجهولي الهوية في شقق سكنية خاصة، غاب عنها التحقق الميداني الكامل.

أيضاً وصل لمعد التقرير شهادات ومعلومات من عدة مصادر تفيد بوجود سيدة تُعرف باسم “ماما ريما” تعيش في منزل في منطقة صحنايا بريف دمشق مع 6 أطفال، ظهرت تلك السيدة سابقاً وهي تعانق أسماء الأسد في زيارة لـ “قرى الأطفال”، ووفق شهادات جوار المنزل فإن أربعة من الأطفال يتلقون تعليماً جيداً، وطفلان يظهران بحالة إهمال. ولم نتمكن من التحقق من المعلومات أو الوصول إلى السيدة أو القاطنين في المنزل.

طبقات من الغموض

ضمن هذا المشهد الفوضوي، تتكامل الاعترافات الرسمية والشهادات الميدانية لتكشف صورة واحدة: شبكة معقدة من الإيداعات الأمنية، وغياب رقابة فعلية، وتضارب في الأرقام، وعمليات إحالة لا يمكن تتبعها بعد تحويل الأطفال إلى الأمن أو مؤسسات مقربة من نظام الأسد، ما حوّل ملف “قرى الأطفال” في سوريا إلى واحدة من أكثر القضايا حساسية في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد، وأحد أهم الأسئلة المفتوحة في تحقيق مصير أطفال المعتقلين والمفقودين في البلاد.

وإضافة إلى هذا التعقيد، فإن محاولة الوصول إلى رواية فرع “قرى الأطفال” في سوريا باءت بالفشل، فبعد تواصل معد التقرير المباشر مع إدارة الفرع، وزيارته مقر المنظمة في دمشق حيث طُلب منه إرسال الأسئلة خطياً عبر البريد الإلكتروني، لم يتلق أي استجابة أو تعليق حتى تاريخ نشر التحقيق، بما في ذلك الأسئلة المتعلقة بالأطفال مُعادِي الإحالة والفجوات الرقمية في بيانات الفرع السوري.

ويؤكد امتناع الفرع السوري لـ “قرى الأطفال” عن الرد، رغم توافر الوقت والفرصة، وجود طبقات إضافية من الغموض إلى ملف الإيداعات الأمنية، ويعكس مدى هشاشة الشفافية المرتبطة بعملياتها خلال السنوات الماضية.

المنظمة الأم: نظام إحالة أمني منظم وحالات بلا أثر

يكشف تقرير المنظمة الأم لمنظمة “قرى الأطفال” عن واحدة من أكثر الحقائق حساسية في ملف الإيداعات الأمنية، إذ توصلت المراجعة إلى وجود 140 طفلاً أُدرجوا تحت تصنيف “Compulsory Indeterminate Placements“، بالعربية “وضع قسري للأطفال في رعاية مؤسسية دون تحديد هوية أو مدة“، وهو تعبير تقني اعتمدته المنظمة بدلاً من مصطلح “أطفال الإحالات الأمنية“.

ويُظهر التقرير أن هؤلاء الأطفال أُدخلوا إلى رعاية “قرى الأطفال” بأوامر مباشرة من إدارة المخابرات الجوية، خارج أي مسار قانوني طبيعي أو إجراءات حماية طفولة، مشيراً إلى توزع الأطفال على الشكل التالي:

الجنسية / الخلفية العدد
سوريون 110
عراقيون 16
روس (يُرجَّح أنهم شيشان) 8
روس – أذربايجانيون 5
أوروبي (غير محدد) 1

ويفصّل التقرير آلية الإحالة الأمنية التي اعتمدت نظاماً ثلاثياً منظماً تشترك فيه المخابرات الجوية ومحافظ ريف دمشق ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، حيث يبدأ المسار عادة بكتاب رسمي صادر عن المخابرات الجوية إلى المحافظة يطلب “إيجاد مأوى مناسب للطفل” مع تعليمات صريحة تتعلق بالسرية وعدم التواصل مع أي جهة.

بعد ذلك يحال يحيل المحافظ الكتاب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي بدورها توجه “قرى الأطفال” باستقبال الطفل، مرفقاً بجملة ثابتة: “عدم اتخاذ أي إجراء دون الرجوع للوزارة، والحفاظ على سرية الأسماء وعدم تسريب أي معلومات“.

واعتمدت منظومة الإيداعات الأمنية للأطفال بوضعهم داخل “قرى الأطفال” كمحطة امتداد لبيئة الاحتجاز الأمني، ويشير التقرير إلى أن غياب الوثائق الثبوتية كان السمة الغالبة على معظم حالات الدخول، بما في ذلك تغييب شروط القبول القانونية للمنظمة.

أما الخروج، فلم يكن “إعادة دمج” أو “تسليماً قانونياً“، بل عملية تسليم أمني مباشر عبر كتب رسمية، حيث تُظهر السجلات أن مساعداً أمنياً كان يتسلم الأطفال من “قرى الأطفال”، وأن بعضهم بقي أياماً معدودة فقط، بينما عاش آخرون سنوات في دور الرعاية قبل نقلهم إلى جهات أمنية.

ويؤكد تقرير المنظمة الأم لـ “قرى الأطفال” على وجود فجوة حاسمة، حيث لا توجد أي آلية لمعرفة ما حدث للأطفال بعد مغادرتهم، ولا أي أثر رسمي لمعظمهم.

الخطوة الجهة الإجراء
1 إدارة المخابرات الجوية إرسال كتاب رسمي يطلب “إيجاد مأوى مناسب للطفل” مع التأكيد على السرية
2 محافظ ريف دمشق تحويل الكتاب إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل لتنفيذ الطلب
3 وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل توجيه “قرى الأطفال” لاستقبال الطفل مع تعليمات بعدم اتخاذ أي إجراء دون الرجوع للوزارة

عملية تحقيق “شبه مستحيلة”

يقدم تقرير المنظمة الدولية معطيات تفصيلية عما حدث داخل مراكز “قرى الأطفال” خلال وجود الأطفال، إذ تظهر الشهادات أن الرعاية اليومية كانت في حدود مقبولة، لكنها جرت تحت رقابة أمنية مشددة.

كما يشير التقرير إلى صدور تعليمات أمنية صارمة للكوادر بمنع تصوير الأطفال أو ذكر أسمائهم، ومنع إخبارهم بأي معلومات عن عائلاتهم، إضافة إلى تهديدات بالطرد أو العقوبة في حال تعريضهم لأي أذى، حيث كان قص الشعر كان يحتاج إلى إذن أمني.

ورصدت المنظمة الأم حالات متعددة من تغيير الأسماء والهوية، حيث كان الطفل لا يجيب على الاسم الجديد أو يملك أكثر من اسم بين السجلات الداخلية والخارجية.

ويكشف التقرير أن بعض الأطفال وصلوا إلى “قرى الأطفال” كانوا في حالة إهمال شديد أو مع آثار كدمات، خصوصاً بين الأطفال الروس، دون إمكانية حاسمة لتحديد ما إذا كانت الإساءة قد وقعت داخل مراكز الاحتجاز أو قبلها.

ويعرض التقرير حالات بارزة، منها قضية أطفال رانيا العباسي التي لم يجد فريق التحقيق أي دليل يؤكد دخولهم إلى “قرى الأطفال”، رغم بقاء الملف مفتوحاً.

كما يوثق التقرير قضية تخص خمسة أطفال جرى وضعهم بين عامي 2014 و2017 كمجهولي هوية، قبل إعادتهم إلى ذويهم ضمن صفقة تبادل مع فصائل المعارضة.

يؤكد التقرير أن المشكلة الأخطر لا تتعلق بآلية الدخول، بل بما جرى بعد الخروج، إذ انتهى أثر معظم الأطفال عند اللحظة التي تسلمتهم فيها الجهات الأمنية، في ظل غياب تام للسجلات، وفقدان الملفات وتضارب الأسماء وعدم تسليم وثائق كاملة عند إغلاق مراكز الطوارئ.

ويصف التقرير هذا الواقع بأنه جعل عملية التحقيق “شبه مستحيلة“، باستثناء شهادات بشرية متفرقة.

وفي اجتماع عقدته المنظمة الأم مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة نظام الأسد الأخيرة قبيل السقوط، في 7 تشرين الأول 2024، اكتفت الوزارة بالتأكيد أن البيانات “سرية” وأن “الأطفال بخير“، دون تقديم أي أدلة أو معلومات حول أماكن وجودهم، وهو ما عزز القناعة لدى جهات التحقيق الدولية بوجود “منظومة أمنية – إدارية متكاملة” لإخفاء مصير الأطفال، شاركت فيها الأفرع الأمنية وجهات حكومية تابعة لنظام الأسد هي محافظة ريف دمشق ووزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والفرع السوري للمنظمة.

داخل مقرات “قرى الأطفال” بعد تحرير سوريا

في 13 كانون الأول 2024، بعد أيام قليلة من تحرير دمشق، شارك المعتقل السابق والمؤسس المشارك في “رابطة معتقلي صيدنايا”، منير الفقير، ضمن فريق ميداني توجه إلى مقرات منظمة “قرى الأطفال SOS”، بالتعاون مع قوة أمنية من عملية “ردع العدوان”، بهدف البحث عن أي أثر لأطفال المعتقلين الذين فُصلوا عن ذويهم خلال السنوات الماضية.

يقول الفقير إن الزيارة الأولى كانت إلى مقر ضاحية قدسيا، الذي وجدوه خالياً تماماً من الموظفين. وبعد محاولات للدخول، ظهر حارس البناء “متردداً ويحاول إخفاء معلومات أساسية”. وبضغط من القوة المرافقة، اصطحبهم الحارس إلى المبنى الرئيسي أعلى التلة، حيث فُتحت بعض الأبواب بينما كُسر بعضها الآخر بحجة فقدان المفاتيح.

ويضيف أنه “لم نعثر إلا على ملفات مبعثرة لا تحمل قيمة حقيقية، لكنها كانت كافية للدلالة على مواقع مقرات أخرى للمنظمة وأسماء موظفين”.

انتقل الفريق بعد ذلك إلى فرع الصبورة، حيث واجهوا بداية ممانعة من الإدارة قبل أن تتجاوب المديرة تحت الضغط. نفت الأخيرة امتلاك أي بيانات تعود لما قبل عام 2018، لكنها سمحت بدخول جميع غرف المنشأة.

يلفت الفقير إلى ملاحظة تكررت في أكثر من غرفة “جميع المشرفات اللواتي يُطلق عليهن لقب الأمهات كن من طائفة واحدة، وكذلك الكادر الإداري والحراسة”. وخلال الجولة، أجرى الفقير، مع زملاء آخرين، حديثاً هادئاً مع الأطفال بعيداً عن عناصر القوة، “حتى لا يشعروا بالخوف”.

يقول الفقير إن “إجابات بعض الأطفال على الأسئلة العامة كانت مترددة، وكانوا ينظرون نحو المشرفات قبل الرد، وفي حالات كانت المشرفة تتدخل لتصحيح كلامهم”.

خلال الزيارة، حصل الفريق على معلومات عن ثلاثة منازل تابعة للمنظمة في معضمية الشام. زاروها بالطريقة ذاتها، لكن من دون الوصول إلى أي مؤشر واضح على وجود أبناء لمعتقلين، إذ أُبلغوا بأن معظم الأطفال مصنفون بين مجهولي النسب أو فئات يصعب التحقق منها.

وانطلاقاً من وثائق عُثر عليها في الصبورة، توجه منير الفقير مع الفريق إلى المقر الرئيسي للمنظمة في مزة الفيلات الشرقية، حيث التقوا هناك مع المدير الوطني لمنظمة “قرى الأطفال” في سوريا، سامر خدام، الذي بدا، وفق الفقير، “مرتبكاً جداً”، وأنكر امتلاك أي معلومات عن الملفات القديمة أو أي علاقة بالتنسيق مع الأفرع الأمنية خلال السنوات السابقة.

بعد هذه الجولة، واصل الفقير متابعة الملف بالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، سواء في عهد الوزير الأول بعد التحرير أو لاحقاً مع الوزيرة هند قبوات، ويقول إنه تمكن من الاجتماع بمسؤولي قسم الحماية في المنظمة، الذين أكدوا بدايةً عدم وجود أي ملفات ورقية أو إلكترونية، لكن مع الضغط، أُتيح الاطلاع على بعض الوثائق التي أظهرت جانباً من العلاقة المباشرة بين “قرى الأطفال” والأجهزة الأمنية التابعة لنظام الأسد.

وفق منير الفقير، كانت السياسة المعمول بها تقوم على تسليم الأطفال الذين تنقلهم الأفرع الأمنية إلى وزارة الشؤون، التي تتولى توزيعهم على دور الرعاية، ومنها “قرى الأطفال”. لكن لاحقاً، انتقل التواصل ليصبح مباشراً بين الأجهزة الأمنية وهذه المراكز دون المرور بالوزارة، وهو ما أكدته بلاغات وتسريبات لاحقة.

يشير الفقير إلى أن الجزء الأكثر خطورة في الملف تكشّف ضمن مراكز “لحن الحياة”، حيث تمكن من الوصول إلى مجموعة من الأطفال الذين سردوا “تفاصيل دقيقة جداً” حول ممارسات ارتكبها مسؤولون في تلك الدور، شملت تغيير نسب بعض الأطفال والضغط عليهم وارتكاب انتهاكات جسيمة.

كشف الفجوات: أرقام متغيرة ووثائق مغيبة

قدّمت وجد قدور، وهي باحثة وناشطة وعلى صلة قرابة بعائلة الدكتورة رانيا العباسي، شهادة موسعة حول زياراتها إلى مقرات “قرى الأطفال” بعد التحرير، موضحة أنها شاركت في زيارتين رسميتين.

جاءت الأولى ضمن وفد من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل والأمن الداخلي إلى المقر الرئيسي للمنظمة، بحكم صلتها العائلية بملف أطفال رانيا العباسي، حيث طُلب من الوفد جمع جميع الملفات والوثائق المتعلقة بالأطفال وتسليمها للوزارة.

أما الزيارة الثانية فكانت برفقة الدكتورة نائلة العباسي، شقيقة رانيا، إلى بيوت الشباب التابعة لقرى الأطفال، بهدف البحث عن الأطفال داخل أربعة منازل مختلفة، ومحاولة التعرف إلى أي طفل يمكن أن يكون من أبناء رانيا أو قد تواصل معهم سابقاً.

تشير قدور إلى أن مرحلة ما بعد التحرير شهدت بداية مراجعة رسمية لأعداد الأطفال الموجودين في عهدة قرى الأطفال، إذ طلبت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، بعد استلام الوزير فادي قاسم مهامه، وثائق تفصيلية عن الأطفال.

وقالت قدور إن المنظمة قدمت بداية قائمة تتضمن 45 طفلاً فقط، لكن اعتُبر الرقم غير دقيق، لوجود أطفال مقيمين دون تسجيل رسمي، وبعد ضغوط إضافية، أبلغت المنظمة الوزارة بأن العدد يبلغ 125 طفلاً، قبل أن تعود لاحقاً وتذكر رقماً جديداً وصل إلى 225 طفلاً قالت إنها “لا تعرف كيف وصلوا إلى الدار”.

المرحلة الرقم المعلن
القائمة الأولى 45 طفلاً أول رقم قدّمته “قرى الأطفال” للوزارة
القائمة الثانية 125 طفلاً اعتُبر الرقم أدق بعد التدقيق الأولي
القائمة الثالثة 225 طفلاً رقم لاحق قالت المنظمة إنها “لا تعرف كيف وصلوا”

وترى قدور أن هذا التباين يعكس “مراوغة متعمدة” من إدارة “قرى الأطفال” السابقة، ومحاولات لحجب أعداد أكبر، مشيرة إلى أن المنظمة كانت تتوقع أن تنتهي المطالبة الرسمية بمجرد تقديم جزء من الوثائق، “لكننا واصلنا المتابعة، فظهرت أرقام جديدة وبيانات ناقصة”.

وتكشف قدور أن فريق المتابعة حصل مؤخراً على معلومات تفيد بأن ثماني وثائق أساسية مفقودة من سجلات الأطفال، كانت موجودة سابقاً ولم تُسلم لإدارة المنظمة الجديدة، ما زاد من الشكوك بشأن طبيعة الإخفاء والخلل في أرشيف الفرع السوري للمنظمة الدولية.

وتضيف أن شهادات مختلفة، وإن كانت بلا وثائق دامغة، تشير إلى أن عدداً من الأطفال الذين كانوا ضمن الإيداعات الأمنية نُقلوا من “قرى الأطفال” بعد عام 2019، بعد أن طلبت المنظمة الدولية وقف استقبال الإحالات الأمنية، إلا أن بعض الإيداعات استمرت بأعداد أقل.

ووفق شهادة وجد قدور، جرى تحويل قسم من الأطفال إلى مشروع يُدعى “طريق النحل” وهو مشروع مرتبط مباشرة بأسماء الأسد، من دون سجلات أو بيانات توضح هوية هؤلاء الأطفال أو مصيرهم.

كما يتقاطع عدد كبير من الشهادات والمعلومات حول وجود مشروع “طريق النحل” بمركزين في دمشق، والذي يصفه ناشطون ومتابعون لملف أطفال المعتقلين بأنه “الحلقة المفقودة” في مسار اختفاء الأطفال الذين كانوا يودعون سابقاً في دور الرعاية، ولا سيما “قرى الأطفال” واختفائهم عقب خروجهم.

“طريق النحل”: طريق لا يصل إلى طريق

بعد طلب المنظمة الأم لـ “قرى الأطفال” من الفرع السوري التوقف عن استقبال الإيداعات الأمنية بعد عام 2019، تشير مصادر وروايات متعددة، إلى أن عدداً من الأطفال نُقلوا فعلياً من “قرى الأطفال” إلى مركز “طريق النحل“، حيث انقطع أثرهم لاحقاً، وسط غياب كامل للوثائق الرسمية أو الأضابير التي يمكن أن توضح مساراتهم وهوياتهم.

وفي سياق البحث عن طبيعة المركز والشخصيات المرتبطة به، يظهر اسم هيثم سلطجي بوصفه المشرف على مشروع “طريق النحل” عبر جمعية “حقوق الطفل“، وهو شخصية قدمتها وسائل الإعلام الرسمية، قبل وبعد التحرير، تحت مسميات متعددة، منها “عضو اتحاد الجمعيات الخيرية بدمشق، عضو اللجنة الوطنية لمكافحة التسول، أمين سر اتحاد الجمعيات الخيرية، رئيس أمناء مؤسسة حقوق الطفل”.

كما كان سلطجي ضيفاً دائماً على قنوات وسائل إعلام نظام الأسد، بما في ذلك “سما“، “السورية“، “لنا“، “نور الشام“، بوصفه مسؤولاً معنياً ببرامج رعاية الأطفال وحمايتهم.

ومنذ عام 2021 بدأ حديث سلطجي علناً عن مشروع “طريق النحل” باعتباره واحداً من برامج جمعية حماية الطفل، ويقدم كدار رعاية للأطفال فاقدي الرعاية الأسرية، بالشراكة مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، مع توفير خدمات نفسية وتعليمية ومهنية، إلا أن أياً من هذه الجهات لم يقدم سجلات تفصيلية حول الأطفال الذين استقبلهم المركز خلال السنوات الماضية.

ويؤكد مصدر خاص مطلع على مراكز رعاية الأطفال مجهولي الهوية منذ سنوات طويلة، فضل عدم الكشف عن هويته، أن مركز “طريق النحل”، بفرعيه في باب مصلى ودمر، بين عامي 2021 و2024، كان يضم فتياناً وفتيات لا تُعرَف هويات كثير منهم، وقد شوهدت حالات لأطفال لا يعرفون أسماء عائلاتهم أو أماكن ولادتهم، بعضهم يتحدث بلهجات مختلفة ولا يملك أي معلومة عن خلفيته.

ويصف مصدر آخر كان يعمل في مركز “طريق النحل” في فرع باب مصلى، مشاهدته لطفلة كانت محتجزة في إحدى غرف المركز وتقول إنها كانت “مُعاقَبة” دون أن تعرف لماذا أو من أحضرها إلى هذا المكان، ولم تكن لديها أي فكرة عن عائلتها مؤكداً أن هذه الحالات لم تكن استثنائية.

ويروي المصدر المطلع أنه خلال نزهات كانت تُنظم للفتيات في مركز “طريق النحل”، كانت ترافقهم مديرة المركز، لمى البابا، وعدد من معاوناتها وصديقاتها، بعضهن مرتبطات بشبكة واسعة من دور الرعاية المقربة من أسماء الأسد والأمانة السورية للتنمية.

وتذكر المصادر ضمن هذه الشبكة شخصيات مثل لمى دقوري وفداء دقوري ولمى الصواف وندى الغبرة، اللتين وُجهت إليهما لاحقاً اتهامات من ذوي معتقلين بأن أطفالهم مروا عبر مراكزهما قبل أن ينتهي المطاف بهم في “طريق النحل” ليختفي أثرهم لاحقاً.

وأسفرت التحقيقات اللاحقة بعد التحرير عن توقيف عدد من العاملات في هذه المراكز، والكشف عن منزل في منطقة المزة تُديره سيدة تُعرف باسم “ماما رنا”، وُجد فيه عدد من الأطفال مجهولي الهوية.

تؤكد وجد قدور أن المعلومات التي جُمعت من مصادر متعددة تشير إلى أن التحويل إلى “طريق النحل” كان يتم خصوصاً بعد 2019، عندما باتت “قرى الأطفال” تحت ضغط المنظمة الأم لوقف الإيداعات الأمنية.

وتوضح أن مركز “طريق النحل” كان يُستخدم كمسار بديل لإخراج الأطفال بعيداً عن أعين الرقابة، وأن المركز كان يرفض تقديم أي وثائق بحجة “حماية الأطفال”، في حين لا توجد سجلات تثبت أصولهم أو طريقة وصولهم إلى المركز.

وتشدد قدور على أن مركز “طريق النحل” تابع فعلياً للأمانة السورية للتنمية وترتبط إدارته مباشرة بأسماء الأسد، وأن مديره هيثم سلطجي ظل يحتفظ بنفوذه داخل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل حتى بعد التحرير.

كما أنكرت جمعية حقوق الطفل، الجهة التي يُفترض رسمياً أنها تدير المشروع، أي علاقة لها بمشروع “طريق النحل”، مدعية أنها لا تعمل إلا ضمن برامج الأطفال فاقدي الرعاية، لكن أي وثائق أو أضابير لم تُقدم لتأكيد هذا الادعاء.

ومع غياب السجلات والمعلومات من الموقعين الرئيسيين للمركز في باب مصلى ودمر، يظل “طريق النحل” أحد أهم المسارات التي يجتمع عليها الشهود كمحطة نهائية لا يمكن تتبع ما بعدها في ملف أطفال المعتقلين.

لجنة التحقيق الوطنية: ما الذي تقوله وما الذي تتجنب الرد عليه؟

تؤكد رغداء زيدان، معاونة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ورئيسة لجنة التحقيق الوطنية الخاصة بالكشف عن مصير أطفال المعتقلين والمغيبين قسراً، أن اللجنة تتمتع بكامل الصلاحيات الإدارية التي تتيح لها الوصول إلى ملفات دور الرعاية التابعة للوزارة، وجمع الشهادات، والتنسيق مع وزارتي الداخلية والعدل فيما يتعلق بتسليم الوثائق والمعلومات اللازمة للتحقيق.

وتشير زيدان إلى أن اللجنة تعمل بصفتها لجنة تحقيق اجتماعي – إداري وليست جهة قضائية أو أمنية، لكنها مع ذلك تتابع حالات متعددة من الأطفال الذين جرى تتبعهم بعد العثور على بيانات متضاربة بشأنهم، بما في ذلك أطفال ورد في السجلات أنهم أُعيدوا إلى ذويهم.

وتوضح أن التحقق من الهوية يتم عبر الوثائق الأصلية إن وجدت، أو عبر الصور المحفوظة، وفي الحالات المجهولة يجري التحضير لاستخدام فحوص DNA، وتؤكد أن اللجنة سجلت حالات تغير فيها النسب أو اختفت فيها المعلومات الأساسية المتعلقة بالأطفال.

وفيما يتعلق بدور “قرى الأطفال”، تقول زيدان إن اللجنة تواصلت رسمياً مع المنظمة بعد تسلم إدارتها الجديدة مهامها، وإن هناك تعاوناً قائماً معها في تتبع الأطفال الذين مروا عبر مراكزها، مؤكدة أن اللجنة زارت هذه المراكز في دمشق، ولم تعثر، بحسب روايتها، على أطفال بلا وثائق أو بأسماء غير حقيقية.

وتشدد معاونة وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل أن عمل الوزارة يركز اليوم على إعادة تنظيم الرقابة والتأكد من التزام جميع دور الرعاية بالقواعد القانونية، لافتة إلى أن هناك تنسيقاً مباشراً مع وزارة الداخلية في هذا الجانب.

وفيما يتعلق ببيانات الأطفال المفقودين، تشير زيدان إلى أن اللجنة تعتمد على الوثائق الموجودة وبلاغات الأهالي معاً، وأن خط البلاغات يستقبل اتصالات بشكل دائم، وأن التحقيقات تشمل جميع المحافظات دون استثناء، كما تؤكد وجود تواصل مع الجهات القضائية والداخلية في ملفات المساءلة، ومع جهات دولية في إطار تبادل المعلومات.

حساسية مضاعفة وتشابكات أمنية

ورغم إجاباتها على معظم الأسئلة الأساسية، امتنعت السيدة زيدان عن الرد على الأسئلة التوضيحية والتفصيلية التي تتعلق بمحاضر التسليم القديمة، وعدد الأطفال الذين يجري التحقق من هوياتهم فعلياً، والتناقضات الرقمية التي ظهرت في بيانات المؤسسات التابعة للوزارة وفي سجلات الإيداعات الأمنية، بالإضافة للمعلومات بشأن الأشخاص والأطراف التي ورد ذكرهم في هذا التقرير، رغم التذكير.

وبعد ذلك أحالت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل معد التقرير إلى بيان رسمي أصدرته، الإثنين الماضي، يذكر أن متابعة الملف تتم بالتنسيق مع وزارات العدل والأوقاف والداخلية والهيئة الوطنية للمفقودين، إضافة إلى ذوي الضحايا وعدد من منظمات المجتمع المدني.

وأشارت الوزارة إلى أنه “نظراً لحساسية الملف”، تمتنع عن الإدلاء بأي تصريحات إعلامية في الوقت الراهن تتعلق بسير العمل، حفاظاً على سلامة الأطفال وذويهم.

إلا أن مصدراً خاصاً داخل وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فضّل عدم الكشف عن هويته، أكد أن هذا البيان جاء بناءً على توجيهات من وزارة الداخلية بعد إبلاغها من قبل أشخاص في وزارة الشؤون الاجتماعية بأن تحقيقاً يعده “تلفزيون سوريا” بشأن الموضوع، في مؤشر إضافي على حساسية القضية وتشابكها مع الجهات الأمنية.

وتعليقاً على أداء وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، تؤكد وجد قدور أن الوزارة نفسها لا تمتلك صورة مكتملة عن أعداد الأطفال أو مصيرهم، وإنها ما تزال في مرحلة جمع وفرز كمية هائلة من الوثائق والمستندات غير المؤرشفة، بالتعاون مع وزارة الداخلية والأمن الداخلي.

وذكرت وجد قدور أن دخول فرق التحقيق إلى مقرات “قرى الأطفال” كان في السابق يحتاج إلى قرار من مجلس الوزراء لأنها منظمة دولية، على خلاف دور الرعاية الحكومية مثل “لحن الحياة” التي يسهل الوصول إليها، وهو ما يزيد من تعقيد التحقيقات واستكمال المعلومات الخاصة بالأطفال الذين مروا بهذه المراكز خلال سنوات الحرب.

قضية أطفال الدكتورة رانيا العباسي

تعتبر قضية الدكتورة رانيا العباسي وأطفالها الستة واحدة من أكثر الملفات حساسية في سياق ملف الإيداعات الأمنية، حيث اختفت الأسرة بالكامل بعد اعتقالها من قبل المخابرات الجوية في عام 2013، وبقي مصير الأطفال مجهولاً طوال سنوات الحرب.

الدكتورة رانيا العباسي وزوجها وأطفالها

ورغم أن تقرير المنظمة الأم لـ “قرى الأطفال” لم يجد “دليلاً موثقاً” على دخول أطفال الدكتورة رانيا العباسي إلى أحد مراكزها، إلا أن ملف هؤلاء الأطفال ظل مفتوحاً في جميع المراجعات، فيما تحدث موظفون سابقون وشهود عن احتمالات غير مستبعدة لمرورهم عبر دور الرعاية قبل نقلهم إلى جهات أمنية أخرى.

وفي كانون الأول 2024، برز تطور لافت حين نشر حسان العباسي، شقيق رانيا، اتهاماً علنياً موجهاً إلى منظمة “قرى الأطفال” مفاده أن ابنة شقيقته “ديما” ظهرت في شريط دعائي صادر عن المنظمة عام 2022، وأشار إلى أن الفتاة الظاهرة في الفيديو تشبه ديما بشكل كبير، وأنه طلب من المنظمة الكشف عن اسمها والتحقق من هويتها، إلا أن المنظمة لم تستجب لطلب.

واعتبر شقيق رانيا العباسي أن عدم استجابة “قرى الأطفال” لطلبه المباشر يشكل “سبباً إضافياً للشبهة”، موضحاً أن تأخر المنظمة في الرد بعد سقوط نظام الأسد، رغم تواصله المتكرر معها، دليل على وجود معلومات لم تُعلن، داعياً إدارة المنظمة السابقة والحالية إلى تقديم كشوفات كاملة بالأطفال الذين دخلوا مراكز الرعاية بين عامي 2013 و2022.

شهود وناشطون على صلة بالملف، بينهم وجد قدور، أكدوا أن أرقام الأطفال التي قدمتها “قرى الأطفال” حول تلك السنوات لم تكن متسقة، وأن بعض الأطفال مروا داخل المراكز دون تسجيل رسمي، كما اختفت لاحقاً وثائق تتعلق بعدد من الملفات، وهو ما عزز فرضية أن أطفال العباسي قد يكونون مروا عبر مراكز الرعاية في فترة ما قبل 2018، قبل تحويلهم إلى جهات أخرى، بما فيها مسار “طريق النحل” الذي يشكل حلقة رئيسية في اختفاء الأطفال بعد خروجهم من “قرى الأطفال”.

أما لجنة التحقيق التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، فرغم تأكيدها أنها لم تعثر حتى الآن على أدلة قاطعة تشير إلى دخول أطفال رانيا العباسي إلى “قرى الأطفال” أو “لحن الحياة”، إلا أنها ذكرت أن السجلات الرسمية “تعاني فجوات كبيرة” وأن عملية التحقق من الأسماء والوثائق ما تزال جارية، وأن ملف العباسي يبقى واحداً من الملفات ذات الأولوية القصوى بسبب تعدد الشهادات وعدم اكتمال الوثائق.

أطفال في الظل

تكشف المحصلة النهائية لهذا التقرير عن منظومة كاملة لا يمكن اختزالها في “نظام سابق” و”مسؤولية سابقة” و”أخطاء إدارية” أو “سوء تنسيق”، بل شبكة متشابكة شاركت فيها جهات أمنية ومؤسسات ووزارات، ودور رعاية حكومية وخاصة، ومنظمات دولية يفترض أنها تعمل تحت معايير صارمة للمساءلة والشفافية.

مسار واحد اجتمعت عنده كل هذه الجهات وانتهى باختفاء أثر الأطفال الذين دخلوا من بوابات الإيداعات الأمنية وخرجوا إلى فراغ قانوني لا يجيب عن سؤال بسيط: أين هم الآن؟

بين السجلات الممزقة والوثائق الناقصة والأسماء المبدلة، ومسارات موازية مثل “طريق النحل”، وبين عمليات تسليم إلى جهات أمنية لا يعرف أحد ماذا فعلت بهؤلاء الأطفال، يتبدى هذا الملف كأكبر اختبار للعدالة الانتقالية في سوريا الجديدة.

ويشتبك في الاختبار الواجب القانوني للمؤسسات المحلية مع الالتزامات الأخلاقية والإنسانية للمنظمة الدولية التي كان يفترض أن تكون ضمانة للحماية، لا جزءاً من شبكة تؤدي إلى إخفاء الأطفال أو تسليمهم خارج أي مسار قانوني.

وفق مصادر من الناجين وعائلات المعتقلين ومستشارين حقوقيين وقانونيين تواصل معهم معد التقرير، فإن المسؤولية في هذا الملف بعد سقوط نظام الأسد متعددة المستويات: مسؤولية الحكومة الجديدة التي سمحت بتحويل الأطفال إلى ملفات أمنية؛ مسؤولية وزارة الشؤون الاجتماعية التي قصّرت في التوثيق والمتابعة ولم تقدم إجابات واضحة رغم التذكير المتكرر؛ مسؤولية الجهات الأمنية التي تتعامل حتى اليوم مع الملف بغموض مقصود؛ ومسؤولية المنظمة الدولية التي عملت تحت غطاء العمل الإنساني دون أن تلتزم بحد أدنى من إجراءات الحماية أو الشفافية أو الإفصاح.

وفي ظل هذا التعقيد، تزداد شيئاً فشيئاً هشاشة الثقة في الحكومة الحالية، التي ما زالت، رغم سقوط الأسد، تتردد في تقديم رواية واضحة، وتبقي الإعلام الوطني على هامش الملف، وكأن الكشف عن الحقيقة تهديد لا استحقاق قانوني وأخلاقي. لكن من المؤكد أن تغييب الإعلام وعدم الثقة به وإبعاد الصحافة عن مسار البحث، هو استمرار للنهج القديم الذي ساهم في إخفاء الحقيقة لسنوات طويلة.

الجهة نوع المسؤولية
الحكومة الجديدة تحويل الأطفال إلى ملفات أمنية وعدم تقديم رواية واضحة حتى الآن
وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل قصور في التوثيق والمتابعة وتضارب في البيانات والأرقام
الأجهزة الأمنية التعامل مع الملف بغموض مقصود وإخفاء مسارات الأطفال بعد الإحالة
المنظمة الدولية “قرى الأطفال” العمل تحت غطاء إنساني مع ضعف في الشفافية والإفصاح وحماية الأطفال

اليوم، وبعد أكثر من عقد، تبدو الأسئلة أشد إلحاحاً من أي وقت مضى:

أين الأطفال الذين كبروا وصاروا بالغين؟ هل توجد سجلات مخفية أو أرشيفات طُمست عمداً؟ من المسؤول السياسي والقانوني عن اختفاء الأطفال؟ ما الذي يمنع الكشف الكامل عن الوثائق؟ هل تملك الدولة الجديدة الإرادة لإعادة بناء الثقة عبر المساءلة والشفافية؟ وماذا يريد الأهالي اليوم غير حقهم البديهي في معرفة الحقيقة ومحاسبة كل شخص أو جهة، محلية كانت أم دولية، شاركت أو صمتت أو تسترت، واستعادة أبنائهم أو قبورهم أو أسمائهم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى