مِن آرامَ السوريّ إلى الطَاغِيَةِ الكَونِيّ .. نجم الدين سمان
لم يكن لدينا في سورية طاغيةٌ؛ كان لدينا وَرِيثُ أبيهِ: الطاغيةُ الأولُ؛ الرفيقُ البعثيُّ الأول؛ المُعلّمُ الأول؛ الفلّاحُ والطالِبُ والعاملُ والضابِطُ الأول؛ الأبُ القائِدُ الأوحَدُ؛ الأبديُّ؛ حتى ماتَ أبَدُهُ، بالنيابةِ عنهُ!
ثمّ تَوَارَثَهُ ابنُهُ؛ لم نحتمِلهُ أحدَ عشرَ عامًا على كُرسِيِّه حتى ثُرنَا عليهِ؛ حِرصًا عليه؛ كيلا يتلوَّثَ مثلَنا بوحولِ الأرض؛ هاتفينَ لهُ كالعُشّاقِ المُدنَفين: يلّا.. ارحل للمرِّيخ!
يا لَقِلَّةِ وفائِنَا لِسُلالَةِ الوَحشِ التي ما أن كَبُرَت وُحُوشُهَا بيننا؛ حتى نَهَشَتَنا؛ فكنّا كمثلِ الرَعِيَّةِ في مسرحية سعد الله ونّوس؛ نكادُ نقول: الفيل يا ملك الزمان؛ ثمّ صِرنا شهودَ صَمتٍ على زواجَ ديناصورات الاستبداد بفِيلَة الفساد؛ فداسَت أرواحَنا الفِيَلَةُ ونهشَت أجسادَنا الديناصورات.
نحن شعبٌ غيرُ جديرٍ بالعباقِرَةِ الدكاتِرَةِ من سُلالَةِ الأباطِرَة؛ لا نَصلُحُ لنكونَ شعبًا؛ لقد أنجبنا يوسف العظمة؛ شَتّانَ بينه وبين العَقِيدِ سهيل النمر؛ صاحبِ نظرية: أعداء العالم!؛ وأنجبنا عبد الرحمن الكواكبي؛ بينما تمخَّضَ طاغيتنا شخصيًا فأنجَبَ أحمد حسّون؛ وأنجبنا خالد العظم فأنجبَ نكايةً بنا رامي مخلوف؛ وأنجبنا فارس الخوري فأنجب لنا ميليشياتٍ طائفية وشبّيحةً ومُعفِّشِين؛ وأنجبنا محمد كرد علي فأنجب لنا حسين جمعة المُختصّ بالحيوان والحَيوَنَة؛ وأنجبنا نزار قباني وعمر أبو ريشة فأنجب لنا مها قنوت وطابورًا من الشُوَيعِرَاتِ والشَوَاعِير والنَوَاقِيد والحَوَاصِيد.
على سِيرة الحَوَاصِيد.. أنجبنا أبي خليل القباني فأنجبَ لنا علي الديك!
بعد 5 سنوات.. أعترفُ بأنَّا أخطأنا؛ حين ثُرنَا على أطولِ حُكَّامِنا؛ وعلى صَاحِبِ أسلَسِ وأهبَلِ ضحكةٍ في التاريخ؛ بَعِيدِ مَهوَى القِرطِ.. كالزرافة.
نحنُ شعبٌ عَاقٌّ بالفعل؛ حين مَانَعنَاهُ؛ لِنَمنَعَهُ عن شفافيتِهِ؛ كلُّ ما قالَهُ لنا: “شفُّوا لي.. لأشفَّ لكم”؛ فَمَنَعَنَا حَيَاؤُنَا أن نرَى عَورَاتِ حُكّامنا على مَرِّ العصور؛ ولم يكُن يليقُ بنا التحديثُ والتطوير؛ فقد كان لدينا رئيسٌ يَصلُحُ لرئاسةِ العالمِ كلِّه؛ بل إنّه الرئيسُ المُمَانِعُ لا نظيرَ لضحكاتِهِ.. شتّان بينها وبين ضحكاتِ السيسي؛ وكلّ من أخرجَهُ الربيعُ العربيّ من الباب فعادَ من الشبابيك؛ وكان يتعرَّضُ لمؤامرةٍ كونيّة؛ فلم نقِف إلى جانِبِه لنتصدَّى للمُتآمِرِينَ عليه؛ الغامِضِينَ؛ القادِمِينَ من الفضاء الخارجيّ.
بعد 5 سنواتٍ.. أعترِفُ بأنّا لم نُدرِك -إلّا مُتأخرِينَ جدًا- بأنَّ المافيا التي تحكم العالمَ.. قد فَوَّضَت وَالِدَهُ بأقدارِنا ثلاثين عامًا؛ ثمّ انتقلَ التفويضُ في سُرَادِقِ العَزَاء الأبديِّ.. إليه!
وحين أرَدنَا ربيعًا؛ صدَّقنا بأنَّ البراعِمَ تقاوِمُ بالمظاهراتِ وَحدَهَا.. بِسطَارَ العَسكرِ والعَسَسِ والبَصَّاصِين؛ بل كنّا على يقينٍ بأنَّ الدنيا لا تزالُ بخيرٍ؛ بعد أن حَصَلَت القِطَطُ والكِلابُ والببغاواتُ على حُقوقِهَا كامِلةً؛ فَخِلنَا بأنَّ دَورَنَا قد حَانَ؛ بعد وقوفنا في الطابورِ وراءَهَا.. آلافَ السنين.
نحنُ آسفونَ أيُّها الرئيسُ الكونِيّ؛ كُنّا نَعرِفُ حلفاءَك الظاهرين؛ فلمّا وَجَدنَا أننا وَحِيدُو وَحدِنا؛ أدركنا حُلفائَكَ الباطِنيِّين؛ حين أسمُوا أنفسَهُم: أصدقاءَ الشعبِ السوريّ!
سنُسامِحُكَ عن كُلِّ شيءٍ.. فسَامِحنَا؛ لأنّنا هَتَفنَا ضِدَّكَ؛ ولأنّنا كُنَّا شعبًا مُندَسًّا بينَ شعبِك؛ وكُنَّا الجراثيمَ؛ بل إنّنا.. مُجرَّدَ مُجسَّماتِ قَطَريّة.
سامِحنَا.. لأنّنا قصفنا أنفُسَنا بدباباتنا التي اشتريناها من فائضِ لُقمتنا؛ رَكِبنَا الطائرات لنتفرَّجَ على أنفُسِنَا ونَحنُ نقصِفُ أنفسَنا؛ بل إننا ذَبَحنا بالسكاكينِ أطفالَنَا؛ ثمَّ التقطنا صُورَ “السيلفي” معهم؛ لِنُوثِّقَ جَرَائمِنِا؛ اعتقلنا شبابنا لنتلذّذَ بِمَوتِهِم البَطِيءِ تحتَ التعذيب؛ اغتصَبنَا فتياتِنَا ونِسَاءَنَا بأنفُسِنَا لنتّهِمَ شبّيحتَك؛ ثم أعلَّنَا عليكَ جِهَادَ نِكَاحِنَا؛ خَنَقنَا بغَازِ الكلورين كلَّ النائمينَ عَن وَلائِهِم لَكَ؛ ثمَّ ألصقنا أفعالَنَا الشنيعةَ برقبتكَ الطويلة؛ اطمئِن.. فالمافيا الدولية التي دخل والدكَ مَحفَلَها على يد تشاوشيسكو؛ ستذهب بنا -نحن السوريين- إلى المحكمة الدولية لجرائم الحرب؛ بدلًا منك!
أعترِف بعد 5 سنوات بأننا دَمَّرنا حَوَاضِرَنا وأريافنا، واحدةً تلو الأخرى؛ لتُعيدَ -مِن أجلِنَا- إعمَارَهَا؛ فَيَا لَجُحُودِنا.. ويا لَعَظَمَتِك.
ثمّ أنّنا تركنا حاراتِنَا طَوَاعِيَةً؛ خرجنا من أريافِنَا وبلداتِنَا للسياحَةِ فَحَسبُ؛ عَبَرنا كلَّ الحدود لنَخطِفَ لقِبَ: “شَعبِ التِيه”. كم كُنَّا نَكرَهُ بيوتنا! فاستبدلناها بالخِيَم؛ وحاراتِنَا.. بالمُخيَّمَات؛ حُبًا بمنظمةِ غًوثِ اللاجئين وسماسرة المساعدات؛ استبدلنا رَغَدَ عيشِنَا -في ظِلِّكَ- بِقَلَقِ بان كي مون؛ استبدلنا أحزابَ الجبهة الأسديّة بالمُؤتلفينَ من مُعَارَضَاتِنا وبالمُعتلفين؛ لم نكُ نعرِفُ السباحةَ، فَغَرِقنَا في البحر؛ صَدَّقنا الخطوطَ الحمراء التي هَدَّدُوكَ بها، فوجدناها تُطوِّقُنَا؛ كًنَّا على يقينٍ بأنّ الحقَّ معنا؛ وبأنَّ إبليسَ وكلَّ شياطينِ الكونِ معك؛ ثمّ قال لنا شيخٌ بلحيةٍ زَعفرَانيّةٍ: دقُّوا على طناجِرِكُم لُتؤَرِّقوا نَومَهُ ومَنَامَه؛ فيسقُطَ عن كُرسِيِّهِ قبل مطلع الفجر؛ حتى صَرَخنا ذاتَ مُظاهرةٍ: يا الله مالنا غيرَك.. يالله!؛ ثمَّ ملأت سماءَنَا الطَيرُ الأبابيلُ من كُلِّ قارَّةٍ؛ تنفّسنا صُعَدَاءَ خلاصِنَا؛ لكِنّها قَصَفتَنَا نحنُ.. بِحِجَارةٍ من سِجِّيل؛ فاكتشفنا على لسان دهاقنة داعش والقاعدة، بأنّا لم نَكُ مُسلمينَ بعد 1400 عامٍ من إسلامِنَا!
أعترِفُ.. بأنّا فَشِلنَا بإطاحَتِكَ حتى الآن؛ أيُّها الطاغيةُ الكونيّ؛ فالكلّ يتآمَرُ لتَعوِيمِكَ فَوقَ دِمَائِنَا؛ لا يُدرِكونَ بأنّها ستَصِلَ صعودًا إلى لَهَاتِكَ ورئتيكَ.. لِتَغُصَّ بها؛ فتَقتُلَك.
ولن يَطولَ هذا.. دَمُنَا قد فاضَ؛ ثمّ يَفِيضُ طُوفانًا؛ وسنَربَح بِهِ وَحدَهُ حُرِّيتنا؛ وحُريّةً سِوَانَا؛ فكلُّ شعوبِ الأرضِ تنتظرُ قِيامَةَ السوريينَ من جديدٍ، لتتخلّصَ -هِيَ أيضًا- مِن طُغَاتِهَا.
كلُّ الدروبِ لا تُؤدِّي إلى روما؛ إذا لم تَمُرَّ بِدِمَشق!
عن جيرون