احملوه.. إنّه ميّت .. عبد الكافي عرابي النجار

كان أغلب المعتقلين من النّاس العاديّين الذين ليس لهم أيّ نشاط سياسيّ أو عسكريّ، ولا يمكن أن يقال إنّهم معارضون، وإن كانوا يكرهون النظام، ويتمنّون أن ينزاح كابوسه عن صدورهم، ولكنّهم كانوا يعيشون في مناطق سيطرته، ولم يكن بمقدورهم القيام بأيّ نشاط يمكن أن يدلّ على أنّهم معارضين، اعتقل أغلبهم على الحواجز عشوائيّاً أو بحجج واهية:
فهذا بطاقته الشخصيّة مكسورة، وهذا لم يعجب شكله أحد العناصر على الحاجز، وهذا كان يريد إخراج جواز سفر، وهذا كان يحمل خضاراً في سيّارته، فاتهموه أنّه ينقلها للمسلّحين، وهذا كان يحاول مغادرة سوريّة عن طريق لبنان، وهذا قالوا له تشابه أسماء، وها هو معتقل منذ أشهر، وهذا وجدوا في هاتفه المحمول أغنية ثوريّة، وهذا لا يعرف لماذا اعتقلوه من محلّه، وهذا موظف، وهذا طالب، وهذا عامل، وهذا تاجر، وهذا وهذا…
كانوا من جميع الأعمار تقريباً، صحيح أنّ أغلبهم من الشباب، ولكن كان فيهم أيضاً من تجاوز الستّين، والمضحك المبكي أنّ أحد هؤلاء كان ولده ضابطاً في جيش النظام برتبة ملازم أوّل، وهو ما زال على رأس عمله، ولم ينشقّ، ولكن لأنّه ينتمي إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار، أمضى أشهراً وهو مُعتقل.

كلّ المعتقلين يجبرون تحت التعذيب على الاعتراف بكلّ أنواع الجرائم الجاهزة في فروع الأمن: (تشكيل مجموعات مسلّحة ومهاجمة الحواجز والقتل والاغتصاب ودعم الإرهاب وتمويله والتحريض عليه أو إيواء إرهابيّين) ومن لم يعترف يكون مصيره القتل تحت التعذيب.

هذا سلوك نهجه النظام انتقاماً من الحاضنة الشعبيّة للثوار، هذه الحاضنة التي لم يتصوّر النظام أن تثور على واقعها المخزي رغم كلّ الإجراءات القمعيّة والتدابير الأمنيّة، وربّما أراد من فظاعة التنكيل وقسوته وشدّة البطش، إرهاب وتخويف باقي السوريين، الذين يسمعون أخبار هذا التنكيل، من القلّة القليلة من المعتقلين التي كانت تنجو، إمّا بدفع الرشوة ممّن يملك المال، أو بتدخّل بعض المتنفّذين الذين تجمعهم المصالح مع النظام، فغالب قصص المعتقلين واحدة، ولكن الاختلاف في التفاصيل فقط.

عمّار شاب دخل إلى المهجع بعدنا بأيام، كان قادماً من فرع المخابرات الجويّة في حمص، شاب من حي باب السباع، عمره قريب من الأربعين، طويل جسيم خفيف الظلّ يمازح من حوله، شاب ممتلئ حياة، يعمل موظفاً كسائق في المحافظة، لا يعرف لماذا اعتقل، مع أنّه كان مازال على رأس عمله في المحافظة إلى يوم اعتقاله.

بدأت تصرّفاته تتغير بعد عودته من جلسات التحقيق، صارت حركته بطيئة، فكان قليل الحركة دائم الاستلقاء، وبدأ يحدّث نفسه بصوت مرتفع، كان يتحدّث كأنّه في بيته، ينادي أولاده – عنده أربعة أولاد- يناديهم بأسمائهم، وفي بعض المرّات يصرخ عليهم، يقول لهم: – لمَ فعلت كذا؟ لمَ ضربت أخاك؟ لمَ؟ لمَ؟
بعض المرّات كان يتكلّم كأنما يحدّث زوجته بالهاتف: – أعدّي فنجانين قهوة، أنا قادم بعد دقائق.

في بادئ الأمر تضايق باقي المعتقلين في المهجع من تصرّفاته، فقد ظنّوا أنّه يفعل ذلك متعمّداً ساخراً، ولكن بعد وقت قصير أدركوا أنّه يتصرّف من غير إدراك (فَصَل) فهو ذاهل عن المكان الذي هو فيه، يعيش خيالات وهلوسات يتصورها دماغه، كانت حالة معروفة عند المعتقلين وإن اختلفوا في سببها، بعضهم يقول هذا بسبب التعذيب والضغط النفسي الهائل الذي يتعرّض له المعتقل، وبعضهم يقول بل بسبب نقص التروية في الدماغ نتيجة قلة الطعام.

تطوّرت حالة عمّار فلم يعد يستطيع القيام، ثمّ امتنع عن الأكل، حاول رفاق المهجع أن يساعدوه على الوقوف، ولكنّهم لم يستطيعوا، عندها طلبوا من شاويش المهجع أن يطلب من الجلّاد (العسكري المناوب) أن يخبر الطبيب بأنّ هناك سجيناً في حال حرجة، لم يستجب أحد. في المساء زادت حاله سوءاً فجازف بعض الشباب، وبدأوا يقرعون باب المهجع بقوّة، وهم يعلمون ما ينتظرهم بعد ذلك في حفلة تعذيب خاصّة.

جاء الطبيب- كان برتبة نقيب- وبعد السباب والشتائم، طلب من الشباب أن يخرجوه إلى الممرّ، فحمله أربعة ووضعوه على أرض الممرّ، وهو شبه عار، فجعل هذا الذي يُسمّى طبيباً يضربه على يديه ورجليه بـ كبل بلاستيكي (نبريج) وهو يصرخ بكل ما في قاموسه من الشتائم القذرة، ويطلب منه أن يتوقف عن التمثيل. الغريب أن عمّاراً لم يحرّك ساكناً، ولم يصرخ، بل لم يئن، طلب الطبيب من الشباب أن يعيدوه إلى المهجع، وهو يقول: – ليس به شيء، إنّه يتمارض، إنّه يمثّل وأردف كلماته بما بقي في جعبته من الألفاظ القبيحة.

حمله الشباب إلى داخل الزنزانة، وليس فيه شيء يتحرّك إلا عيناه، بات تلك الليلة على هذه الحال، وفي ضحوة اليوم التالي صرخ بعض الشباب حوله: (يمكن عمّار مات يا شباب) وتجمّع رفاق المهجع حوله، وبدأ الذهول على الجميع، هذا يبكي، وهذا يهذي: – ما أرخص الإنسان؟!

قرعوا الباب وأخبروا الجلاّد بأنّ سجيناً قد مات، لم يأت الطبيب إلا بعد أكثر من نصف ساعة، ورفاق المهجع مذهولون، هذا يقرأ سورة (يس) وهذا يدعو وهذا مدهوش يهذي. حملوه خارج المهجع، ووضعوه على الأرض، سمعنا صوت الطبيب الحاقد يقول: احملوه إنّه ميّت.

قلت في نفسي التي تكاد تنفجر ألماً وكمداً: كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذا المستوى من الوحشيّة والإجرام؟! هل فعلاً درس هذا المتوحّش الطبّ في الجامعات؟! ما الذي حوّله إلى مسخ يمثّل دور القاتل المأجور، يقتل بدم بارد دفاعاً عن ديكتاتور؟! ثمّ تذكّرت أنّ هذا الديكتاتور الذي يقتل هذا المسخ من أجله الآخرين درس الطبّ أيضاً في يوم من الأيام (كما يقولون) لقد قتل هذا الطبيب من السوريين حوالي مليون إنسان، فكيف ذلك؟! والحقيقة أنّ من رضع الحقد والكراهية والاستعلاء على إخوانه من بني الإنسان منذ نعومة أظفاره لا يؤثر فيه طبّ ولا علم ولا غيرهما.

مدونات الجزيرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى