
الرئيس ماكرون… وصحافيون ماكرون .. محمد كريشان
ليس هناك أسوأ وربما “أغبى” من أن يدخل أي سياسي في معركة مجانية مع الصحافة والصحافيين، فما بالك أن يفعلها بجلالة قدره رئيس دولة؟!! وفوق ذلك رئيس دولة في بداية عهده!! الرئيس الفرنسي الجديد الشاب إيمانويل ماكرون فعلها.
من التقاليد التي أرساها الرئيس السابق فاليري جيسكار ديستان منذ 1978 أنه مع كل احتفال الفرنسيين بعيدهم الوطني في 14 يوليو/ تموز يدلي الرئيس بمقابلة تلفزيونية مطولة يديرها عادة أكثر من مذيع تلفزيوني أو صحافي وتكون مناسبة يعرض فيها الرئيس الخطوط العريضة لسياساته ومشاريعه المستقبلية ويحدد فيها موقفه من مجمل قضايا داخلية وخارجية.
سار على ذلك من بعده فرانسوا ميتران (1981 ـ 1995) ثم جاك شيراك (1995 ـ 2007) ثم نيكولا ساركوزي (2007 ـ 2012) وأخيرا فرانسوا أولاند (2012 ـ 2017) وكان لكل من هؤلاء الرؤساء نكهته، غير أن ماكرون كان له رأي آخر. ليس هذا فقط بل إن هذا الرفض فتح عليه مبكرا أبواب جهنم مع الصحافيين.
لم يكتف ماكرون بكسر هذا التقليد الذي تعود الفرنسيون لعقود على انتظاره بل إن بعض المحيطين به في قصر الإيليزيه “جاؤوا يكحلوها فعموها”، قالوا لصحافيين سألوا عن السبب وراء ذلك، إن أفكار الرئيس “معقدة” وبالتالي فهي غير ملائمة لعرضها أمام جلسة تقتصر على أسئلة وأجوبة هكذا…!! وزاد من تعقيد الموقف القول إنه لا يرى من المناسب أن يتحدث أمام البرلمان بغرفتيه، النواب والشيوخ، يوم 3 يوليو/ تموز ثم يدلي بمقابلة يوم 14، علما وأن خطابه هذا قرر أن يلقيه قبل يوم واحد فقط من عرض رئيس الوزراء إدوارد فيليب سياسة حكومته أمام البرلمان فكان أن اعتبر المعلقون ذلك إهانة للحكومة ورئيسها معا.
ما حدث أعطى إشارة الانطلاق لحملة غير مسبوقة ضد الرئيس الجديد الذي يتلمس خطواته الأولى في الحكم. قيل عن كلمة أفكار “معقدة” بأنها “تعبير غريب ومفاجئ” وبأن ما تلاها من تصرفات تعكس “نوازع الحكم الشخصي والانحرافات السلطوية” لدى الرجل. قيل كذلك أن “إلقاء خطاب أسهل طبعا من مواجهة أسئلة مزعجة” من بينها مثلا سبب دعوته للرئيس الأمريكي دونالد ترامب المثير للجدل ليكون ضيفا على احتفالات عيد الاستقلال التي تصادف هذا العام الذكرى المئوية لدخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، أو تلك المتعلقة بقانون العمل الجديد أو بوزيرة العمل التي تخضع حاليا لتحقيق قضائي.
ليس هذا فقط، فقد فـُــتحت على الرئيس نيران التعليقات من كل صوب، اللاذعة والساخرة في آن معا، خاصة فيما يتعلق بزعم أن أفكاره “معقدة”، وأنها أكبر، أو أسمى، من أن تعالج في مجرد لقاء تلفزيوني، فالرجل مدين للإعلام خلال حملته الانتخابية. جمّـــله هذا الإعلام في أعين مواطنيه كما لم يفعل مع أحد غيره، “دلّعه” مرشحا فإذا به الآن يتجاهلهم، أو يزدريهم رئيسا، حتى أن الصحافي الفرنسي دانيال شنايدرمان تحدث عن جزاء سنمار لأنه ” إذا كان هناك من مرشح رئاسي للإعلام، المكتوب منه والسمعي والبصري، فهوهو(ماكرون)، فما إن فاز حتى انقلب عليه… ما هذا النكران للجميل؟”.
أحد المؤرخين الفرنسيين من المختصين في الجمهورية الخامسة ويدعى جان غاريك اعتبر أن ماكرون “يريد أخذ بعض المسافة وبعض الارتفاع وألا يبالغ في التواصل مع الإعلام كسابقيه”. ربما، ولكن هذا أمر مكلف للغاية في بلد مثل فرنسا فهاهم الصحافيون هناك شرعوا بعد هناك في “معايرته” بأنه لم يعط ولا مقابلة واحدة منذ استلم دفة الحكم باستثناء الرد على أسئلة تتعلق فقط بشؤون أوروبية نشرتها صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية.
لقد كان دائما للرؤساء الفرنسيين بصمتهم الخاصة في علاقتهم بالإعلام، كان ميتران “حكيما” ويزن كلماته بميزان من ذهب، وكان شيراك قريبا من عامة الناس ومحل تندر خاص في برامج الدمى السياسية التلفزيونية الشعبية، وكان ساركوزي لا يتورع عن الدخول في خصومة خاصة مع بعض الإعلاميين إلى درجة تسببه في طرد المذيع التلفزيوني الشهير باتريك بوافر دارفور بعد سنوات طويلة كان فيها نجم نشرة الثامنة مساء في القناة الأولى، وكان أولاند محل بعض “الفضائح” في علاقاته النسائية، لكن لا أحد منهم دخل مبكرا جدا في عداوة مع الإعلام كما يفعل ما كرون الآن.
ما حصل سيطبع علاقة الرئيس بالإعلام بمزيج من الحذر والشك وهذا ليس في مصلحته في كل الأحوال فالإعلام يطلع بالسياسي إلى عنان السماء لكنه قادر كذلك على إسقاطه أرضا، ومبدئيا لا أحد يريد ذلك لرئيس شاب طموح ومفعم بالحماسة للتغيير. وإذا كان الرئيس الأمريكي ترامب وصلت به كراهيته للإعلام حد بث شريط مصور يرمز فيه للكم جنوني لشخص جعله يرمز لقناة “سي أن أن” الشهيرة، فإن ماكرون فعل الشيء نفسه… لكن ضد الإعلام الفرنسي كله دونما سبب أومقدمات…ودون الحاجة إلى صور أوتغريدة!!
القدس العربي



