آباء وأمهات سوريا يعيشون على الذكرى والخوف من الموت وحدهم
قبل فترة قصيرة من الزمن، نشرت واحدة من أشهر الصفحات السورية على موقع الفيسبوك قصةً لسيدة عجوز، عُثر عليها ملقاة على الأرض في منزلها وحيدة، بعد تعرُّضها لأزمة صحية، ولولا مرور أحد الجيران مصادفة أمام منزلها وسماعه لصوت أنين من الداخل لما علم بها أحد.
العجوز دخلت أحد المستشفيات بعد هذه الواقعة، ثم بدأت عملية البحث عن أولادها ليتبيَّن أن جميعهم في الخارج، وربما لم يعلم أي منهم بقصتها، بل سمع بها بعض الناشطين والمهتمين بعمل الخير فقرَّروا مساعدتها ونقلها إلى أحد مراكز المسنين بعد علاجها.
قصة السيدة هذه ذكَّرتنا بآلاف غيرها من المسنين، ممن باتوا اليوم وحدهم في سوريا، بعد سبع سنوات من الحرب والتهجير والنزوح، وخلت بيوت كثيرة من ضجيج الأولاد وشغف الشباب ليحلَّ مكانهم الصمت والهدوء، أو في أحسن الأحوال تحوَّلت حياة العائلة لمجموعة رحل من دولة إلى أخرى لرؤية أولادهم.
أخاف الموت وحيداً
السيد حبيب عيسى وهو رجل يقارب السبعين من عمره، عاد مؤخراً من رحلة طويلة و”ممللة” كما يصفها، قضاها في أميركا لزيارة أولاده، يقول إن جدارن منزله الفارغ في دمشق أحنّ عليه من البقاء مع أولاده في الغربة، فهم يعملون لساعات طويلة، ولا يلتقي بهم إلا مصادفة وفي العطل الأسبوعية، وحتى أحفاده نسي معظمهم اللغة العربية، وأصبح التواصل معهم “متعباً”.
ويشرح السيد حبيب وهو جالس على شرفته يراقب الشارع، بأن هذه الجلسة تكفيه، فهو يملك هنا أصدقاء كثيرين ومعارف، وربما لأولاده حياتهم وظروفهم وقد انتهى هو بالنسبة لهم، لهذا قرَّر الانسحاب بدلاً من معاتبتهم، ويقول: “أعرف أن خياري ليس سهلاً، لكني أرفض أن أصبح ضيفاً على أحد، وأن أعامل بنوع من الشفقة”، موضحاً أن منزله ما زال موجوداً في دمشق، ومصادره المالية لم تتوقف وهي تكفيه للبقاء، كما أنه على تواصل دائم مع الأولاد عبر الموبايل، وقد يزورهم في العام القادم، ثم يختم حديثه وهو يصرُّ أن يقدم لي كأس الشاي بنفسه، ليثبت أنه ما زال شاباً: “أنا أخاف من شيء واحد وهو أن أموت وحيداً، وألا يسمع وجعي أحد في عتمة الليل”، ثم يؤكد لي بحماس، يُواري دمعة ترقرقت بعينه أنه ما زال مصراً على الخروج يومياً والسير في حديقة قريبة من منزله، ومن ثم الاتجاه إلى محله، حيث يمضي نهاره إلى أن يحل المساء فيعود إلى البيت بصحبة صديق أو وحيداً.
انتظار مكالمة
على مقربة من منزل السيد حبيب التقيت بسيدة مسنة ما زالت تقيم مع زوجها في منزلهما بدمشق، وقد أغلقت غالبية الغرف واقتصرت على غرفتين فقط، تقول: “ليس من الضروري تنظيفها يومياً، فهي فارغة لا يشغلها أحد”، وتتابع بأن صحتها ما زالت مقبولة هي وزوجها وبإمكانهم الصمود أكثر، لكن الخوف فقط من التقدم في العمر أكثر واستمرار الحرب، فأولادهما الثلاثة شرَّدتهم الحرب أيضاً، وكل منهم له ظروفه الصعبة الخاصة، فلم ينجحوا في العودة للبلاد، ولا حتى في استقدام أهلهم إلى حيث يقيمون، وتتابع بأن ما يزيد من تعقيد الأمر صعوبة هو الحصول على فيز سفر، لهذا التقت بأفراد العائلة من حوالي السنتين في بيروت، ولم تتح لهم الظروف ثانية لعقد لقاء ثان.
على يمينها جلس زوجها المنشغل بمتابعة التلفاز، وتفقَّد هاتفه الخليوي بين الحين والآخر، فتخبرني السيدة بأنه ينتظر اتصالاً ما من أحد أولاده، وتضيف بأنه يحزن كثيراً حينما ينقضي اليوم دون سماعه صوت أولاده الثلاثة أو رؤية أحفاده، وحينما تذكر هؤلاء الأطفال تخرج لي جوالها وتريني صورهم، وتحدثت بالتفاصيل عن كل واحد منهم، وكيف يقضي يومه، وما الكلمات التي حفظها رغم أنها لم تلتق ببعضهم حتى اليوم.
يموتون وحدهم
ومؤخراً، ذكر المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي زاهر حجو، أن مراكز الطب الشرعي في المحافظات تكشف يومياً عن جثة لشخص كهل متقدم في العمر مات وحيداً في منزله، ومعظم الحالات نتيجة احتشاء العضلة القلبية.
ونقلت صحيفة الوطن عن حجو توضيحه أن الحالات النفسية لعبت دوراً في إصابة الكثير من المتوفين المتقدمين في العمر باحتشاء العضلة القلبية، بسبب هجرة أولاد المتوفّى وتركه وحيداً في المنزل، مشيراً إلى أن معظم الحالات كان متوسط أعمارها فوق الستين عاماً.
وشرح حجو، أن أكثر الحالات التي يتم الكشف عنها في حلب، وأضاف أن هذه الظاهرة مقلقة وخطرة، وخصوصاً أنه قبل الأزمة لم تكن موجودة إلا بندرة، موضحاً أن احتشاء العضلة القلبية بحاجة إلى إسعافات سريعة كنقل إلى المشفى، وطريقة النقل بحاجة إلى دقة أيضاً لكيلا تتأزم لديه الحالة.
“النافذة الديموغرافية” أُغلقت تماماً
الحرب لم ترحم الكثيرين منّا، فمن شكر ربه لأنه حمى ابنه ولم يسلمه ليد الموت بات يعيش وحيداً على الذكرى وتجميع الصور، خاصة مع استمرار تدفق الشباب نحو الغربة، قاصدين مختلف دول العالم.
هذا الوضع ذكرنا بمصطلح استخدمته الهيئة السورية لشؤون الأسرة قبل الأزمة، وهو “النافذة الديموغرافية”، وكانت تقول يومها إن سوريا من الدول الفتية، وسيكون أمامها تحدّ كبير، وهو تأمين فرص عمل لأعداد كبيرة من الشباب الذين سيكبرون معاً ويشكلون السواد الأعظم من أبناء البلد، ولمحت الهيئة كثيراً في تلك الأيام، أن هذه النافذة قد تكون مصدر خير إن عرفنا استغلالها، أو قد تكون نقمة إن عجزنا عن ذلك.
وفي تلك الفترة أيضاً نشرت الهيئة تقريراً هو الثاني من نوعه لها، عن حالة سكان سوريا 2010، وحمل عنوان: “انفتاح النافذة الديموغرافية.. تحديات وفرص”، وقال يومها الدكتور محمد أكرم القش، عميد المعهد العالي للدراسات والبحوث السكانية، إن سوريا ما زالت تحتل المرتبة 23 في العالم من حيث مستوى ارتفاع معدل النمو السكاني، فمتوسط حجم الزيادة السنوية لسكان سوريا ارتفع من حوالي 250 ألف نسمة في ثمانينات القرن الماضي إلى أكثر من 450 ألف نسمة سنوياً، وتوقع يومها أن يستمر متوسط حجم الزيادة السنوية للسكان في سوريا بالتصاعد خلال العقدين القادمين، ليصل إلى أكثر من 560 ألف نسمة سنوياً، مبيناً أن الزيادة تحصل في الفئة العمرية التي تقع في سن العمل بين 15 إلى 64 عاماً، مشيراً إلى أن فرصة الاستفادة من انفتاح النافذة الديموغرافية مشروطة بانتهاج سياسة سكانية تنموية تدخلية.
عربي بوست