هيفاء بيطار تسجل أهوال الثورة السورية في “الشحاذة”
أخذت مأساة الحرب السورية، شوطا بعيدا، في مسألة الكتابة، فلم تقف عند استحضار الفاجعة في كافة صورها في المرويات، وإنما ساهمت أيضا في إنتاج نصوص تشبهها لا تخضع لنظرية النوع أو القوالب التجنيسية. وهو ما نجده في كتاب “الشحاذة” للروائية السورية هيفاء بيطار.
تخرج الروائية هيفاء بيطار في كتابها الأخير “الشحاذة” عن دائرة التصنيف أو التجنيس الأدبي رغم تصنيفه على غلافه كرواية. وتقول بيطار على لسان ساردة نصها إن “الرواية السورية لا تنطبق عليها شروط الرواية التقليدية، الرواية السورية تشبه حياة السوريين، متشظية مفكّكة لا يهم أن تكون مترابطة وذات حبكة وتسلسل أحداث، الكتابة يجب أن تكون أشبه بصورة موازية للحدث، للضياع السوري واليأس والإحباط. لذا لم تعد تعنف نفسها وتقلقها بضرورة كتابة رواية متماسكة. يستحيل أن تكون متماسكة في ظل هذا التشظي والضياع”.
التشظي والضياع
عبر هذا المفهوم الذي حددته لنصها، أنتجت المؤلفة نصا يستحضر المأساة السورية، كشفت به جحيم المعاناة التي يعيشها السوريون سواء في رحلات هروبهم في قوارب الموت، أو في الأوطان البديلة، التي لم تمنح لهم غير اجترار المواجع والذكريات. يواجه نص “الشحاذة” إشكالية في مسألة التصنيف. فالتنصيف الخارجي من قبل الناشر، يوسم النص بالرواية، ولكن لو طبقنا أبسط مفاهيم الرواية عليها، لاكتشفنا مراوغة المصطلح، وأن كلمة رواية أكبر من أن تستوعب هذا النص، فلا توجد ثمة أحداث كبرى، أو شخصيات بالمعنى الفني للشخصية، وإنما ثمّة اجترار وبوح ذاتي للساردة التي تتقاطع ذاتها مع المؤلف الحقيقي.
هذه الوضعية تقرب الكتاب، الصادر مؤخرا بالاشتراك بين منشورات ضفاف والاختلاف ودار الأمان، من جنس السيرة الذاتية، وبتأمّل شرائط السيرة الذاتية نكتشف أيضا أنها غير متحقّقة لسببين؛ الأوّل غياب الميثاق أو العهد السيري بتعبير فيليب لوجون. وثانيا، لأن الرّاوية تسعى إلى تشويه أفق انتظار القارئ، بالاعتماد على الضمير الثالث، بما يحمله هذا الضمير من تبعيد للذات عن أناتها، منذ جملة الاستهلال الأولى: “يراودها الانتحار، لا تعرف متى بدأت هذه الرغبة تدغدغ أفكارها… وتتخيل نفسها مسجاة في تابوت”.
لكن مع التقدم قليلا في القراءة، نجد الساردة تتخلى عن هذا الحذر، وتعود دفة السرد إلى الضمير الأنا، في إشارة إلى التصاق الذات بمرويها من جانب وبأناتها من جانب آخر. هكذا يتحوّل السرد إلى سرد مذوت، يعود على المؤلفة التي تحكي تجربتها بعد الحرب، وإعلان الضربة الأميركية على سوريا. ثم تعود مرة ثانية لتمرر الكثير من تجربتها الذاتية ككاتبة، وفوزها بجائزة أبي القاسم الشابي، ومقالاتها التي كانت مزعجة للنظام، وأيضا كتاباتها السابقة على نحو “يوميات مطلقة” وقصة “رغيف خبز ووظيفة” من مجموعة “يكفي أن يحبك قلب واحد لتعيش”. وأيضا المذكرات حيث تشير إلى ما سجلته بتاريخ 27 سبتمبر/أيلول 2016 عن حلب المسلخ.
وهذه الأصداء للجوانب الشخصية تؤكد تطابق الهويات بين المؤلف والشخصية والراوي. وإن كان السارد اعتمد على الضمير الغائب/ الثالث كنوع من نزع الألفة كما يقول شكلوفسكي. فنصبح إزاء سيرة ذاتية مشوّهة. فالذات كما ذكرت الساردة من قبل انقسمت إلى امرأتين “امرأة تتفرج على المرأة الأخرى” وتلك الأخرى، التي تسعى لرؤية ذاتها في مرآتها.
تروي الساردة عن هذه المرأة الملتصقة ها، وهي تعاني من الحرب التي كانت سببا لفراق ابنتها “التي كانت قوتها الوحيدة”. وقد استطاعت أن تنجو من وطن الموت أو الرصاص والقتل كما جاء في أوصاف الساردة، عبر الظفر بمنحة للدراسة، وتترك الأم وحيدة، تجتر حزنها على وطنها مع صديقاتها اللاتي يقاسمنها المأساة بما يسردن عن أوجاعهن من فقد أبنائهن في رحلات المجهول. تسعى الساردة لرسم صورة لامرأة عجنتها المآسي السورية، حتى أنها جعلتها إنسانة مختلفة. فحياتها في باريس تتحول إلى هروب من الزمن، ومن الأصدقاء ومن الأهل، والأهم من الذات. كما ترسم “الراوية” صورة مؤلمة لواقع الحرب التي خرّبت حياة كلّ السّوريين.
إذا كانت الحرب شوّهت الداخل، فإن الغربة ضاعفت وفاقمت من الجرح، فلا أحد يبالي بالآخر، بل صارت المشاعر مزيفة، والذات بحاجة إلى من يحنو عليها، حتى لو كان مجرد خادمة، إلا أنها تكفي أن تشاركها الألم لأن “أقسى شعور يعانيه الإنسان ألا يوجد إنسان يحنو عليه ويتفهّمه”. ومن ثم كان لا بد من خلق بدائل في التعامل وترويض النفس على بناء علاقة جديدة مع الآخر، قائمة على كشف معاناتها عنهم، وتمرير أحاديث سطحية، أو اللوذ ببديل النوم الذي كان بمثابة الرحمة، فالرغبة في النوم صارت أشبه بالرغبة في الموت.
حالة الاغتراب التي صارت عليها الساردة، جعلتها تسير في شوارع باريس هائمة كالمشردين غير معتنية بزينتها، وفي الليل تتصاعد في روحها الرغبة في الصراخ. اللافت أن الاغتراب جمد الإحساس لديها.
كانت الحرب كاشفة لذات الساردة، ومدى عشقها وتماهيها مع وطنها وهذا ما أوصلها إلى الانتحار وفي الوقت نفسه كانت اختبارا حقيقيا لمن يدّعون أنهم من المعارضة، وقد لحقت بهم التغيّرات، فتنكّروا لتاريخهم العريق في النضال، وأيضا للشعب والوطن، مقابل قبض الثمن. ومن ثم نستلمح نبرة سخرية واستنكار من المآل الذي صاروا إليه. كما تدين في الوقت ذاته نمط الحياة الجافة التي شعارها “لا حدا لحدا” فرسائل المودة والمحبّة تستبق بتعبير لايك، في جحود بمشاعر الرّد على الرسالة، وهو ما صبغ الحياة بالنمط الاستهلاكي وهو ظاهر في حياة أختها وزوجها الفرنسي الذي تصفه بالغريب.
من الأشياء اللافتة أن الساردة وهي تروي عن بطلتها لا تجعلها تجتر مأساتها في معزل عن الآخرين، بل على العكس فهي تربط ذاتها بذات وطنها، ولا تجعل من محنتها محنة فردية، بل هي محنة جماعية يعيشها الآلاف من السوريين. تجتر الكاتبة حكاية عمن أصابتهم الحرب بأمراض حتى صارت الأدوية “السند في الحياة”، تساعدهم على تجاوز الأزمة بعدما فقدوا الثقة في إمكانية أن يدعمهم صديق أو صديقة. ومن ثم نحن مع كتابة تقع على أهداب الحكاية وتستلهم من سيرة مؤلفتها الكثير من المواقف الحياتية التي تكشف سوأة الحرب. الحكايات موزعة بين الهنا (باريس) حيث تنتظر الإقامة، والهناك حيث المأساة التي حملتها بين جوانحها، وكادت تودي بها بإقدامها على الانتحار.
ثمة نظرة جديدة للغرب تقدمها الساردة، فبعد أن كان الغرب جنة المعذبين ثم ملاذا للاجئين، نلحظ ثمّة عداوة مبطنة وكراهية داخلية كما عبّر عنها الشاب، وهذا الكره تحول إلى انتقام حيث يقوم بالسرقة حتى يبرر أن سرقته حلال. كما أن الشخصية المسرود عنها ترى باريس مجرد سجن كبير. ومن ثم تعد الأيام لكي تعود إلى وطنها مهما كانت ظروفها. وجه الحرب البائس حاضر في كل شيء في باريس تستحضر حياتها هناك حيث كانت في اللاذقية، وترصد مشاهد مزرية لما خلفته الحرب، على الأشياء، فصالات السينما في اللاذقية تحوّلت إلى أبنية مهجورة، أو أبنية أمنية، أو معتقلات، وليل سوريا صار أسود لأنه “بحالة حداد على القتلى السوريين”.
النص أشبه بتسجيل لأهوال الثورة السورية، ومآسيها التي حلت على الجميع حتى صار التكيف مع العيش في المأساة، وسيلة مقاومة للموت والقبح المستشري في كل مكان. ومن ثم يعد بحق “سيرة ذاتية لمواطن سوري” أيا كان اسمه، أو سيرة “وطن نازف اسمه سوريا”.
ممدوح فرّاج النّابي