في سوريا كنا نخاف الحيطان التي تسمع… وفي ألمانيا أريد أن أرتدي قبعة الإخفاء … ميس الحموي

ماذا لو نستطيع أن نرتدي قبعة الإخفاء؟ طُرح السؤال في تدريب كنت أقوم به وتفاوتت أجوبة الحاضرين. أخذني السؤال في شرود طويل، فكرت، ماذا لو صرت لا مرئية؟ أمشي بخفة في الشوارع، لا أحد يسألني من أين أنا، فتاة عادية بلا أية هوية أو انتماء سياسي أو غيرهما. لا يراني الباعة وليس هنالك من يهتم بأمري، أعبر هكذا بلا أسئلة. أختفي عن أنظار الآخرين فلا أسأل عن الإسلام ولا عن النسوية ولا أضطر للدفاع عن هويتي. أمر بلا صراعات ولا خلافات وأنعم بالهدوء، هدوء الانتماء.

أعتقد أني لم أشعر بذلك حتى في سوريا، لأطول وقت ممكن. عشت أيضاً غربة ولكن من نوع آخر، أقلية دينية إسماعيلية، لكن تنتمي إلى دائرة غير مؤمنة وتعيش في مكان آخر غير مكان المنبت المتجانس في قرية مكونة أساساً من أقليتين علوية ومسيحية لا تشبه المحيط في شيء، لا الانتماء الديني أو الثقافي بشكل أدق ولا السياسي. في المدرسة بكيت كثيراً عندما سُئلت الى أي دين أنتمي، قبل فرزنا لحصة الديانة، لأنني لم أعرف ما إذا كنت مسيحية أو مسلمة وخفت من الانقسام، خفت من الإجابة الخاطئة. طفلة مختلفة عن الآخرين، في محيط لا يفهم لغتها حقاً، أنقذني أخي التوأم وقال لي نحن مسلمون ووجد والدي الموضوع مضحكاً.

كعائلة ضابط لم ننتمِ إلى ضباط جيش الوطن بمعناه السوري ولا إلى التفكير الطائفي المحدود، وبشكل ما الأكثرية المسلمة السنية لم تفهمنا إلى حد اعتبارنا غير مسلمين ولم يساعد الرعب والخوف السوري في تبديد التساؤلات حولنا. ربما عندما انتقلنا الى سلمية بعد بدء الحرب وإحساسنا بعدم الأمان في قريتنا المقسومة طائفياً شعرت بسلام ما، سلام أن تحاط بفهم وتقبل لهويتك، أن تكون كالآخرين تماماً. لكنه وقت ليس بطويل تماماً، غير كاف لردم جراح الطفولة. هذا الجانب السياسي من حكاية عدم شعوري بالانتماء وللجانب الخاص أبعاد أخرى أكثر تعقيدًا.

في ألمانيا كلنا عرب مسلمون لاجئون، إن كنا مسيحيين أو إسماعيليين، علويين أو مراشدة، دروزاً أو لا دينيين، في الحقيقة ننتمي كلنا إلى عالم الإسلام الرحب ولكننا فهمنا هذا هنا بشكل أدق، وفي الوقت نفسه لا يعبر ذلك عنا تماماً، لأننا هنا جزء من معارك أخرى لم نعلم بوجودها من قبل، لأننا الآخر، ومواضيع ما نأكل وما نلبس وكيف نلقي التحية مواضيع نقاش محتدم.

ونترحم على أيام الاختلاف اللذيذ في عش الإسلام الهانئ في سوريا، ولو كان وهمياً.

أفكر أحياناً هل مشكلتي أني زائدة الحساسية؟

أعني أنني أتمنى لو أستطيع الهرب من سؤال، من أين أنت؟ أقول من سوريا وأراقب ردات الفعل في الوجوه، ما هي الأسئلة التي لم تُقل يا ترى؟ لم لا تلبسين الحجاب؟ امرأة متحررة من سوريا، كل الاحترام؟ أتشربين الكحول؟ أتأكلين لحم الخنزير؟ هل كنت تفعلين ذلك في سوريا؟ هل يمكننا أن نهرب من سؤال الهوية هذا؟ لا أريد ألا أجيب، كنوع من التحدي، ليس هناك أي مشكلة أنني من سوريا، لكن في الحقيقة هنالك مشكلة. أنا من سوريا وعليّ تبرير نفسي وتمثيل كل السوريين ثم تبرير كل ما يرى على أنه مختلف. ثم علي أن أسمع أنني مختلفة عن السوريين الآخرين، وكأنه إطراء من نوع ما!

وماذا عن المواعدة مثلاً، تطبيقات المواعدة بشكل خاص، ما الذي أستطيع كتابته هناك عني؟ فتاة سورية تعاني من اضطراب حاد وقديم في الهوية؟ ليبرالية بالمقياس السوري وبالمقياس الأوروبي تحت فئة غير معرّفة، وتفضل تجنب كل أسئلة الـ (نعم) والـ (لا) وما يتعلق بالاختلاف الثقافي والهوية (لأنو من العجور قلبي منجور).
صديق لي كتب “من سوريا وكل الأفكار المسبقة عني صحيحة” تخيلوا كيف يكون للانتماء بعد آخر في عالم المواعدة، من التعليقات العنصرية المثيرة للاشمئزاز إلى التشييء، كأنك لعبة سمراء مثيرة من عالم ألف ليلة وليلة.
ثم من أنا حقاً، وما الذي أريد شرحه؟ الفردانية شيء غير مناسب لأصحاب البشرة السمراء وترف لا نقدر عليه، ثم أنتمي لتلك الأقلية التي لم يسمع بها أحد هنا في ألمانيا كما لم يسمع بها الكثيرون أيضاً من السوريين ما عدا أصحاب نظريتي الإسماعيليين عبادة الفروج أو السلامنة خيرة مثقفي البلاد، ولست بصدد الملامة، فهذه نتيجة حتمية للخوف وللعيش في فقاعات بعضنا بجانب بعض وانعدام الحريات.

أشعر بالارتباك من جواب: نعم أنا مسلمة اسماعيلية لكنني غير مؤمنة وأنتمي إلى الإسلام بشكله الثقافي، في الوقت نفسه تقدم أمي الذبائح والنذور في العيد وتوزع على المحتاجين كمسلمة وتشعل الشموع لنا في كل محنة نمر بها كمسيحية، وتذهب في المناسبات لصلاة الإسماعيلية، تقدم النجوى عني وعن أخوتي وتقول إن شاء الله وتؤمن بالقدر والنصيب ويجلس أبي على الشرفة بينما تتساقط القذائف هنا وهناك ويقول قلبي مطمئن، لن يحدث إلا ما كتبه الله لي. ثم أسأل إذا ما كنت مسلمة؟ وأجمد كجهاز تلفون قديم.

هناك صناديق جاهزة ومن المتعب للمستمع أن نشرح له، ليس هناك من يهتم حقاً بنا، لكن بما نمثله.

صرت أشعر حقاً أنني الآخر أينما حللت. واعتقدت أن المسألة ستختفي مع الوقت، لكن في الحقيقة يزيد الشرخ والاختلاف فقط، وأصير أكثر زورية وأشك بالاندماج والتلاقح الثقافي. تشاركني صديقاتي الكثير من هذه المشاعر.

كنا يوماً نخاف الحيطان التي تسمع، نرغب أن نختفي عن عين الرقيب القاسية، أن ننعم بحرية ما، والآن نرغب أن نختفي من الأعين التي تريدنا ألا ننسى ولو للحظة أننا المختلف من دون شك، أن نختفي من عالم الهويات المرعب.

 

 

 

رصيف 22

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى