فتّش عن المستفيد من حرق الكتب المقدسة! .. ندى حطيط
لطالما سوّقت الدول الإسكندنافيّة نفسها في العالم كواحات للديمقراطيّة الليبراليّة في حدودها القصوى الممكنة إنسانياً، تظللها قوانين تحمي – نظريّاً – حقوق الإنسان في حريّة التّعبير والاعتقاد وإبداء الرأي، مع استثناءات فاضحة تتعلق أساساً بموضوعة «الهولوكوست» وتاريخ الحرب العالميّة الثانيّة، حيث لا يسمح بالخروج عن السرديّة الرسميّة، التي توافق عليها الصهيونيّة العالميّة.
على أنّ حكومات السويد والدنمارك بدت هذه الأيّام بصدد إعادة النظر بتطبيقات قوانين حريّة التعبير، بعد سلسلة من الاستعراضات المشينة التي قام بها لاجئون إلى كوبنهاغن وستوكهولم، تم فيها حرق نسخ من القرآن الكريم أو دنست بطرق أخرى أمام الكاميرات، ونقلت من هناك عبر الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي إلى مختلف أرجاء العالم، وقد ظهر هؤلاء المستعرضون تحت حماية قوات الشرطة، ما أثار امتعاضاً واسعاً في العالم الإسلامي، استدعى بعض أعمال الاحتجاج – أغلبها كان خجولاً – ضد ممثليات الدولتين في بعض العواصم.
واتهم رئيس الوزراء السويدي، أولف كريسترسون، من سماهم بـ»غرباء» باستغلال قوانين حريّة التعبير في بلاده، وتحويلها إلى «مسرح» لنشر رسائل الكراهيّة ضد المسلمين، على نحو قد يجر السويد إلى صراعات دوليّة، ويمكن أن يعرّض أمنها القوميّ للخطر.
وفي تسيس بدا مفضوحاً ومبتذلاً، لمّح كريسترسون إلى دور روسيّ مزعوم للإضرار بصورة السويد، من خلال الإيحاء بأنّ الحكومة السويدية تدعم الاحتجاجات. وفي الواقع فإن المحاكم السويدية صدّت مبادرات الشرطة لاستخدام قوانين النظام العام ضد استعراضات حرق الكتب المقدسة، ونبهت الأجهزة الأمنية إلى ضرورة حماية حرية التعبير ما لم يكن هناك تهديد أمني مباشر.
مع ذلك فإن سلطات استوكهولم، التي قالت إنها قلقة بشأن عواقب منح الموافقات على مزيد من طلبات الاحتجاج التي تتضمن حرق نسخ من القرآن الكريم، استبعدت إجراء تغييرات جذريّة على القوانين المتعلقة بحريّة التعبير. ويبدو أنّها تتجه إلى منح قوات الشرطة المحليّة صلاحيات لوقف الحرق الاستفزازيّ للكتب المقدسة إذا وجدت أن تلك الممارسات قد تهدد الأمن العام.
في موازاة ذلك، فإن الحكومة الدنماركيّة تبحث عن صيغ قانونيّة تمكنها من وقف احتجاجات قد تتضمن حرق كتب مقدسة بعدما تبيّن أن تلك الاحتجاجات قد تستخدم من قبل «متطرفين»، ويمكن أن تثير مخاوف أمنية وردود أفعال تمس بمصالح مملكة الدنمارك.
وتحدثت مصادر استخباراتية عن ارتفاع مستوى التهديد في الخارج لا سيما بعدما حرق مقر سفارة السويد في العراق واضطرت سفيرة السويد في لبنان إلى مغادرة بيروت في إجازة. لكن المحاكم المحليّة مرارا وتكرارا أحبطت محاولات الشرطة لمنع الاستعراضات التي تضمنت حرق نسخ من القرآن الكريم بحجة المحافظة على حرية التعبير.
النفاق الغربيّ
لا شكّ أن الأغلبيّة الساحقة من المسلمين ترى في هذه الاستعراضات التلفزيونية البائسة لحفنة من اللاجئين الموتورين، تحريضاً صارخاً على الكراهيّة الدينية، تتم تحت حماية قوات الشرطة. ويشترك في ذلك مسؤولون رسميّون ودبلوماسيّون من عدة دول في العالم الإسلامي مع الجمهور العاديّ في الشارع – حتى في الدول الاسكندنافيّة نفسها – ممن يريدون من الحكومات أن تتدخل بشكل حازم لإطفاء هذه الفتن.
وحثّ وزراء خارجية 57 دولة إسلامية الدول الاسكندنافية على اتخاذ إجراءات صارمة، ودعت منظمة العالم الإسلامي، أعضاءها إلى اتخاذ «الإجراءات التي يرونها مناسبة»، بما في ذلك استدعاء سفرائهم من مملكتي السويد والدنمارك.
لكّن البعض في الغرب يعتبر أن ذلك يتناقض مع حريّة التعبير. وعارضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبيّ (بما في ذلك فرنسا وألمانيا) ودول غربيّة أخرى بشدّة قراراً لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة صدر بعد تكرر أعمال حرق نسخ القرآن الكريم الأخيرة حث فيه الحكومات على «معالجة ومنع ومقاضاة أعمال الكراهيّة الدينية». وتصر جهات عديدة في السويد والدنمارك على ضرورة السماح بانتقاد الأديان، بما فيها الدين الإسلامي.
ويجادل هؤلاء أن بعض الاستعراضات، التي تتضمن حرق نسخ القرآن الكريم قد تكون مؤسفة واستفزازية للبعض، لكن الحفاظ على مبدأ حريّة التعبير يظل أساسياً مهما كان مضمون ذلك التعبير، وأنّه من الضروريّ عدم الخضوع لضغوط الدول الإسلاميّة بهذا الشأن.
ويمكن للمرء أن ينخدع لوهلة بهذه الحرفيّة في الدّفاع عن الحريات الأساسيّة، لكن مراجعة سريعة لسجل الغرب في هذا المجال تكشف عن نفاق مستحكم واستعلاء بغيض يهيمن على موقف الغرب من ثقافة العالم الإسلامي. فأين هي الحريات المزعومة، بينما يقبع جوليان أسانج في سجن بريطاني مخصص للحالات الأمنية الخطيرة، بدون تهمة قانونية تحضيراً لتسليمه إلى الولايات المتحدة، حيث يواجه تهماً تصل مجموع عقوباتها إلى 175 عاماً لمجرّد أنّه نشر على موقع ويكيليكس الإلكتروني وثائق رسميّة مسربة كشفت عن جرائم حرب وسوء استخدام للسلطة في الحكومة الأمريكية؟!
ومن المعروف وغير المفاجئ أنّ الحريّات في الغرب تتبخر من الجوار حال ما يتعلّق الأمر بانتقاد الكيان الصهيونيّ أو جرائم سلطاته، أو بمساءلة الحقائق التاريخيّة المتعلقة بالهولوكوست، الذي يوظّف بوقاحة لتبرير تصفية قضية الشعب الفلسطيني.
وقد شهدنا في الشهور الأخيرة كيف منعت الدول الغربيّة بلا استثناء وسائل الإعلام جميعها من نقل وجهة النظر الروسيّة في ما يتعلّق بالصراع في أوكرانيا ومنعت بث التلفزيونات الروسيّة في فضائها، وفرضت بلا رحمة سرديّة واحدة مؤيدة لأوكرانيا.
صعود نجم تيارات اليمين المتطرف
وإذا كانت مزاعم حريّة التعبير في الغرب شكليّة إذن، وأنّها تعرّض أمن دوله ومصالحه الاقتصادية للخطر، فمن المستفيد من جرّاء تلك الاستعراضات التهريجيّة المستفزة لمشاعر مئات الملايين من البشر أمام شاشات التلفزيون؟
لا يمكن فهم ما يجري خارج إطار الأوضاع السياسيّة، التي انتهت إليها النخب الغربيّة الحاكمة بداية من الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 وانهيار ثقة الشعوب بها، وانتهاء بالصراع المفتوح في أوكرانيا، الذي تسبب بتهديد امتيازات العيش للأكثرية بعدما ألقى الركود الاقتصادي بظلاله القاتمة على اقتصادات دول الشمال.
هذه الأجواء القاتمة سمحت بتبني جناح من تلك النخب للأفكار اليمينية المتطرفة كوسيلة لكسب الشعبيّة والتسلّق إلى السلطة عبر الترويج للحروب الثقافيّة بين المكونات العرقية والثقافية، وتصعيد اللاجئين المسلمين بوصفهم العدو المشترك لكل الطبقات الثرية والفقيرة، الحاكمة والمحكومة.
وهكذا شهدنا عبر القارة الأوروبية برمتها صعود نجم تيارات اليمين المتطرف، وقفز عديد من سياسييها إما إلى مراكز السلطة والنفوذ أو مواقع التأثير والمعارضة، بعدما ظنّ كثيرون أن الفاشيات انتهت مع توقف مدافع الحرب العالمية الثانية.
من دون المهاجرين – غير ذوي البشرة البيضاء – كهدف سهل للعداء ومشروع استقطاب عابر للطبقات – والدول أيضاً – سيكون من الصعب دائماً المحافظة على توحد الشعوب الغربيّة وراء نخبها في ظل التفاوت المتزايد في الدّخل بين من يملكون ومن لا يملكون، وسيجد اليمين المتطرّف أنّه عملياً بلا مشروع سياسيّ ذي قيمة.
إطلاق هؤلاء السفهاء إلى الشوارع، ليس بريئاً تماماً، إذ ثمة مستفيدون كثر من كل هذا التوتير المفتعل!
إعلامية لبنانية – لندن