الكتابة عن مي سكاف صعبة… لكنني أريد أن أقول لها كم أفتقدها.. إيناس حقي
خمسة أعوام كاملة مرت على رحيل مي سكاف، خمسة أعوام وأنا أفكر بالكتابة عنها وأعجز. علي أن أعترف أولاً أنني قضيت السنوات الأولى من غيابها غاضبة منها للغاية، وكانت حين تزورني في الحلم أصرخ في وجهها معاتبة: كيف استطعت أن تفعليها؟ وأن ترحلي بهذه البساطة؟
تمثل مي لكثير من الناس الفنانة المحبوبة الشجاعة البطلة وأيقونة ارتبطت بالثورة السورية ومساراتها، ولكنها كانت بالنسبة لي ذلك كله وأكثر.
بدأت علاقتي بمي عندما كانت أمي مصرة أن أحصل على دروس خصوصية في اللغة الفرنسية كي يتقدم مستواي في اللغة بسرعة فيما كنت في الصف الثاني أو الثالث الابتدائي. أعتقد أن العلاقات العائلية التي جمعت أمي بعائلة مي جعلت مي أستاذتي الأولى، أتذكر تذمري ورفضي لفكرة الدرس الخصوصي، ولكن وصول تلك المرأة الشابة التي تتحدث الفرنسية بطلاقة والتي اكتسبت حبي من أول درس جعلني أتخلى عن تذمري، ولا بد من الإشارة هنا، أن إصرار أمي ومقدرات مي وأساتذتي للغة الفرنسية في المدرسة كانت عوناً حقيقياً عند وصولي إلى فرنسا لاجئة تتحدث الفرنسية بطلاقة.
بدأت علاقتي بمي، عندما كانت أمي مصرة أن أحصل على دروس خصوصية في اللغة الفرنسية فيما كنت في الصف الثالث. أعتقد أن العلاقات العائلية التي جمعت أمي بعائلة مَي، جعلت مي أستاذتي الأولى
بعد عدة سنوات، قررت مي أن تنتقل إلى عالم التمثيل، وأتذكر أنها ناقشت أمي عندما عرض عليها دور البطولة في مسلسل العبابيد أنها تخشى مقارنتها بممثلات كبيرات لعبن دور سكارليت أوهارا، في “ذهب مع الريح” بما أن حكاية الشخصية الرئيسية في المسلسل كانت مستوحاة من حكاية أوهارا، ولكنها بعد تردد لعبت الدور، وكان الدور نقطة فارقة بحياتها وأصبحت معروفة في كل مكان.
لا أذكر متى وكيف كنا نلتقى، ولا متى حكت لي مي قصصاً عن ماضيها، فالأزمان والحيوات التي عشناها تداخلت كلها في ذاكرتي، كانت مي تحكي لي عن طفولتها، وعن عملها السياسي المبكر، وأتذكر أنها حكت لي أنها كانت توزع المناشير اليسارية وهي تقود دراجتها الهوائية في أحياء دمشق وهي طفلة ومراهقة. وكانت أم مي فيكتوريا، التي كنا نلقبها ماما فيكي، تروي أن مي عذبتها طوال حياتها بسبب أنها ثائرة جامحة متمردة، ولكن فيكي كانت تتفهم مي وتحتضنها وتحترم خياراتها، إذ كانت تروي قصص مي وتضحك.
كانت مي تحكي لي عن طفولتها، وعن عملها السياسي المبكر، وأتذكر أنها حكت لي كيف كانت توزع المناشير وهي تقود دراجتها الهوائية في دمشق.
أحبت مي وتزوجت، وفي نهاية حملها بابنها الوحيد جود، أتت لتشكو لأمي تأخر ولادتها وأنها لم تعد تستطيع الصبر وخرجتا للمشي في الحارة وأتذكر تماماً صورتهما وهما تمشيان وتضحكان فيما تسيران جيئة وذهاباً، وولد جود في اليوم التالي حسبما أذكر.
لعل أكثر شخصية لعبتها مي في حياتها الفنية كانت تشبهها حقيقة هي شخصية سلوى في مسلسل خان الحرير، وللصدفة كنت أزور موقع تصوير أبي الذي كان مخرج المسلسل عندما صورت مي مشهداً يعلم أخوها فيه أنها شاركت في مظاهرة فيضربها، أصرت مي أن يكون مشهد الضرب حقيقياً كي يكون مقنعاً، ورغم تأكيدات أبي بأنه سيكون حقيقياً باستخدام تقنيات التقطيع طلبت منه مي إعطاءها فرصة كي تتفق مع الممثل الذي يلعب دور أخيها وتقديم مقترح حقيقي للمشهد، كان المشهد مقنعاً للغاية في النهاية، وكانت مي كلما تذكرت كم اندمج زميلها بدوره تضحك وتقول: “أكلت قتلة مرتبة، بس طلع المشهد حلو”.
عملت مع مي في مسلسل الشمس تشرق من جديد وكنت من ضمن الفريق الفني أعمل كمخرج منفذ، كانت مي أثناء التصوير قلقة للغاية كل الوقت، متوترة وتركز كثيراً في دورها وعملها، ولكننا ضحكنا كثيراً وظلت النكات التي تنشأ ضمن فريق العمل ترافقنا حتى آخر لقاءاتنا الباريسية.
بعد أن بدأت أعمل في الإخراج، تباعدت اللقاءات، وفجأة مرضت مي ودخلت المشفى، وصلت إلى باب غرفتها في المشفى ولم أجد في نفسي الشجاعة كي أفتح الباب وأدخل، لم أستطع تحمل فكرة أن مي القوية الجبارة يمكن أن تمرض. صرت أزور المشفى أثناء إقامتها، أسأل عن أخبارها ولكنني لم أدخل إلى غرفتها قط.
تحسنت صحة مي وبدأت تعود إلى نشاطها وعملها، وكنا نلتقي بين الفينة والأخرى، نلتقي ونضحك. وبعدها بقليل، اندلعت الثورة السورية، لم يكن لدي أدنى شك في أن مي ستكون في الصفوف المتقدمة، وخشيت عليها كثيراً من الاعتقال، وعندما وصلني خبر اعتقالها من مظاهرة المثقفين في الميدان، أحسست أن قلبي سقط من مكانه، وخشيت أن لا تعود لنا بسرعة وأنا بحاجة وجودها كي أستمد شجاعتي المحدودة بالمقارنة بشجاعتها. لم يطل مكوث مي في قبضة الأمن ولم تتعدى اليومين ولكن بمجرد خروجها أصبح واضحاً أنها لن تستطيع البقاء في البلد خارج السجن، ولكنها أصرت على البقاء حتى إنني خرجت قبلها، ونشطت مي مع كل الشباب وفي كل مكان وبكل بسالة.
التقينا في بيروت بعد خروجها، كانت نظرتها تائهة ولكنها مصممة وتود المضي قدماً في طريق الثورة الذي لا رجعة عنه، وتحدثنا عن طرق الاستمرار من الخارج. غادرت مي لبنان إلى الأردن، وأنا رحلت إلى فرنسا، لنعود فنلتقي في باريس، كان اللقاء عاطفياً للغاية، بكينا وتذكرنا، وتحدثنا عن الإجراءات الإدارية، وأصبحنا نلتقي لماماً ولكن مي تتصل بي أو ترسل لي رسائل كل فترة لتسألني سؤالاً أو لنتحدث في أمر، وكان من الملفت لي عند مراجعة هذه الرسائل أننا لا نسأل بعضنا عن الأحوال وإنما نستكمل حديثاً كأننا بدأناه سابقاً.
توفيت أخت مي الحبيبة لمى ووالدتها ماما فيكي ونحن في منفانا الباريسي، وكنت حينها قد انتقلت إلى مدينة أخرى، وزرتها في كلا المناسبتين الحزينتين، كانت تحاول التماسك ولكن الحزن الذي مسح وجهها لم يعد يغادر رغم أنها كانت ترغم نفسها على الابتسام والضحك.
منذ خمس سنوات، اتصلت بي أمي وأخبرتني أن مي توفيت. لم أفهم، طلبت منها تكرار الأمر عدة مرات، تذكرت مشاريعنا وأحلامنا، وعدنا بأن نعود إلى سوريا الحرة، مر شريط الذكريات في رأسي مؤلماً حاراً، شعرت أن خسارة مي كانت خسارة الأخت التي كانت لي دون أن أعلم.
الكتابة عن مي صعبة، تجاوزت الكثير من التفاصيل، والكثير من الذكريات والأحداث، لكن الوقت يمر وأشعر أنني لا بد أن أقول لها كم أحبها وكم أفتقدها، وأن واحدة من أصعب المهمات التي قمت بها في حياتي كانت مرافقتها إلى مثواها الأخير، وأنني ما زلت غاضبة. ولكنني أتمنى أن تكون راضية وهي ترى مكانتها في قلوب السوريين الثوريين. خمس سنوات مرت ولكن الألم مازال حاراً، وما زال الوداع قاسياً وغير مفهوم.
عن رصيف 22