إسرائيل الغربية .. الدكتور نزار بدران*
إن تاريخ الصراع الإسرائيلي العربي بالنسبة للإسرائيليين بدأ يوم السابع من أكتوبر، لأن في ذلك اليوم حلت بهم أول هزيمة حقيقية تم الإقرار بها على ذلك النحو
طوفان التحاليل وتبني المواقف المؤيدة لإسرائيل إزاء الصراع الحالي في فلسطين لا حدود له. فالصحافة المولعة عادة بالتحقق قبل نشر أية معلومة، لم تعد تعير ذلك اهتماما خلال تعاطيها مع هذا الصراع. كما يجدر القول إن السلطات لا تميل إلى التحقق من مصداقية مصادرها، والتي على أساسها تبني سياسة عملها.
لم تكن هناك نظرة كاملة للصورة. كانت الرؤية مركزة على الفضائع المنسوبة إلى حركة حماس والضحايا الإسرائيليين المدنيين فقط -وهو الجانب المسيء بوضوح إلى القضية الفلسطينية- يبدو أن نسيان آلاف القتلى في صفوف المدنيين الفلسطينيين لا يحرج أحدا، رغم أن أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، وكأن مسؤولية مقتلهم ملقاة على عاتق الفلسطينيين وحدهم، لا على أولئك الذين يرسلون طائراتهم لقصف المباني على مدينة بكاملها وتدميرها.
إن جرائم الحرب التي يمنعها القانون الدولي الإنساني تتجلى في قطع الماء والكهرباء، والإخلاء القسري للمستشفيات، بذريعة أنها تمثل -إلى جانب أماكن العبادة الإسلامية والمسيحية- أهدافا مشروعة للقصف، بينما هي الأماكن الوحيدة التي يتوقع السكان المذعورون أن يجدوا فيها الملجأ والحماية، ومستشفى الشفاء والأهلي المعمداني والكنيسة الأرثودكسية التي تعد من بين أقدم الكنائس، أوضح مثال على ذلك.
لقد تعودنا على غارات القصف العشوائي بذريعة مكافحة الإرهاب، أذكر منها تدمير القوات الروسية للعاصمة الشيشانية غروزني، وتدميرها لمدينة حلب السورية، المدينة التاريخية التي حولها الجيش نفسه إلى خراب. وكذلك الأمر بالنسبة لمدينتي الموصل في العراق والرقة في سوريا، حيث أدى قصف جيوش التحالف الغربي وخاصة الولايات المتحدة إلى مقتل مئات آلاف المدنيين، فبطبيعة الحال كانت “داعش” هي المسؤولة!، بعد أن سيطرت على المدينتين واتخذت من سكانها رهينة!
إن تاريخ الصراع الإسرائيلي العربي بالنسبة للإسرائيليين بدأ يوم السابع من أكتوبر، لأن في ذلك اليوم حلت بهم أول هزيمة حقيقية تم الإقرار بها على ذلك النحو، أما بالنسبة للفلسطينيين والعرب فإن تاريخ الصراع بدأ منذ خمسة وسبعين سنة، أي منذ النكبة والحروب التي تلتها.
بالنسبة للفلسطينيين في غزة فإن طريق الآلام فتح مرة أخرى قبل ستة عشر عاما على الأقل، بسبب الحصار الكامل الذي فرضته القوات الإسرائيلية، وأردفته بجولات عديدة من القصف الذي عرفته تلك الفترة.
إن الغرب لم يتحرك أبدا مع مجرى التاريخ، ولم يكن في صف العدالة أو القوانين الإنسانية، لكنه استفاق فجأة يوم السابع من أكتوبر. إنه يتحرك بطريقة لاعقلانية ويتبع هواه ولا يدين سوى الأعمال التي استهدفت المدنيين الإسرائيليين ولا يتعاطى بالقدر نفسه عندما يتعلق الأمر بالضحايا الفلسطينيين. إن هزيمة أقوى جيش في المنطقة الذي عجز عن إيقاف هجوم حماس، هو ما دفع الساسة الأوروبيين رجالا ونساء إلى هذا التخبط، جارين عالم الإعلام ووسائل التواصل وراءهم. فهل هي هزيمة إسرائيل أم هزيمة الغرب؟ بحسب ردود الفعل يميل الأمر أكثر إلى الفرضية الثانية.
إن الدعم الأمريكي والأوروبي اللامشروط للحرب التي تقودها إسرائيل ردا على هجوم حماس المفاجئ، لا يمثل سوى عقابا جماعيا لسكان غزة الذين يعيشون أصلا تحت الحصار. إنه دعم مبني على فكرة الإرهاب الوهمية، التي رسمت بعناية انطلاقا من هجمات الحادي عشر من سبتمبر. في هذا المخيال الجمعي لا يوجد مكان لحق الشعب الفلسطيني، الذي يعاني ويلات الفصل العنصري المتكتم عليه منذ عقود طويلة.
إن الغرب يفتقد إلى البصيرة والعقلانية الديكارتية. أوروبا لا تنظر حتى إلى مصالحها الخاصة التي تتجاوز الصراع، فهي تسيء الى علاقتها وصورتها مع نحو أربعمائة مليون عربي يدينون هذه الحرب، وتدفع إلى إخراج حماس من قوقعتها ورفض شريحة واسعة من الفلسطينيين لها، إلى فضاء ومشروعية غير متوقعة.
إن نظرة المواطن العربي وليس الفلسطيني فقط إلى حماس، تختلف عن نظرته إلى تنظيم القاعدة أو داعش، فهو يتقاسم مع العالم إدانته للإرهاب الإسلاموي، ولكنه يرفض الخلط الغربي بين الإرهاب والمقاومة، من أجل نيل الإستقلال وضرورة إنهاء الاحتلال.
إن محاولات شيطنة حماس باتهامها بارتكاب أسوأ الفضائع، لا يبرر في نظر الفلسطينيين المجازر التي ترتكب بحقهم كل يوم: 300 قتيل من المدنيين يوميا 40% منهم هم من الأطفال.
هجمات المستوطنين والقوات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة، أوقعت مئات من القتلى الفلسطينيين في مكان لا تتحكم فيه حماس، حيث لا يؤدي بناء المستوطنات غير الشرعية في الأراضي المحتلة إلا إلى استبعاد أي حل سياسي للصراع. هذه الشيطنة لا تهدف في حقيقة الأمر سوى إلى صرف انتباه الرأي العام الدولي والإسرائيلي عن السؤال الرئيسي: لماذا حدث كل هذا؟ ربما سيكون الجواب في هذه الحال: تطبيق القرارات الدولية ورفع الحصار عن قطاع غزة وإنهاء السياسة الإستعمارية.
التعامي الغربي الحالي يذكر بانحرافات السياسات الفرنسية سنة 2011، خلال اندلاع ثورات الربيع العربي في تونس، متمثلا بتأييد الدكتاتوريات المناهضة لشعوبها التائقة إلى الحرية، بل وتسليح تلك الأنظمة والصمت أمام الفضائع التي ترتكب بحق الديمقراطيين العرب، من قتل وسجن ومجازر بحق المدنيين، تصل إلى استخدام السلاح الكيميائي ضدهم، والمأساة السورية مثال حي على ذلك.
بتبنيها سياسة الأرض المحروقة التي يتبعها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تحرق أوروبا في الآن نفسه مستقبل علاقاتها مع المجتمعات العربية الحديثة التي ستولد في يوم ما، بل وتشارك بتبعيتها لأمريكا في بلورة ذلك. وكما قال إرنست رينان : “إن الشعوب هي نتاج للمعاناة أكثر منها للانتصارات”.
ستجد الشعوب صعوبة في الاقتناع بجدوى اتفاقات أوسلو، واتفاقات أبراهام المتعلقة بالتطبيع مع عديد الدول العربية.
إن سياسة الكيل بمكيالين التي ينتهجها الغرب والدعم المطلق لأوكرانيا ضد العدوان الروسي، وفي الوقت نفسه الدعم للاحتلال الإسرائيلي، يقسم العالم مرة أخرى إلى أقطاب متعارضة، والشعور بالإحباط لا يمكن إلا أن يغذي الإرهاب ويؤدي إلى وقوع حروب جديدة.
هل فقدت أوروبا صوابها؟ آمل ألا يكون ذلك، لكن منع المظاهرات الداعمة للفلسطينيين في فرنسا وبلدان أوروبية أخرى وحتى معاقبة الفنانين والرياضيين المتضامنين مع القضية الفلسطينية، يبعث المخاوف بخصوص الديمقراطية والحق في حرية التعبير.
ينبغي علينا أن ندين العمليات التي تستهدف المدنيين، واستعمال القوة العسكرية لفعل ذلك. والعمل بإصرار لرفض هذا النهج، وإلا زاد ذلك من تعميق الفجوات وجعل السلام مستحيلا.
فهل تستطيع أوروبا المحافظة على دورها كشعلة للحرية تنير درب الشعوب، وتدين أعمال الترهيب بكل إنصاف؟ عليها الآن أن تختار.
؟
؟
؟
؟
مراقب ومحلل سياسي *
؟
؟
؟
؟
؟
؟
؟
؟