حكاية حقيقية من “بيزانسون” … لحظة سقوط الطاغية … د. عوض السليمان

لم يستطع عمار النوم ليلة الثامن من كانون الأول. كان مرتبكاً بين الخوف من فشل الثورة والأمل بسقوط الطاغية.كانت دقائقه تمر ثقيلة وهو يدور بين غرف بيته المتواضع في مدينة بوزنصة، شرق فرنسا. مرة في المطبخ ومرة إلى غرفة أبنائه، يراقب حركاتهم وهم نيام، فينظر إلى السماء” يا رب من أجل هؤلاء الصغار، ومن أجل كل الألم والخوف الذي عاشوه، كَمْلِها معنا يا رب”.
يتنقل عمّار بين المواقع الإخبارية، الجزيرة و بي إف إم، والمحطات الوطنية الفرنسية، لعله يسمع خبراً مختلفاً. ثم يذهب إلى حالة صديقه سامي في واتس أب. وسامي هذا لا يتوفق عن كتابة الحالات التي تواكب الأحداث في سورية، دقيقة بدقيقة.
الحالة الاخيرة التي كتبها سامي كانت” يا شباب لا تناموا الليلة سيكتب تاريخ سقوط الأسد”. ومع أن هذه الحالة بثت الأمل في قلب عمار، لكنه تساءل كيف يمكن لبشار أن يسقط. لقد استطاع هذا القاتل بمساعدة إيران وروسيا تدمير المدن وقتل سكانها وتهجهير ما تبقى منهم، أو زجّهم في السجون. ثم كيف سيقبل العالم بأحمد الشرع المتهم بالإرهاب هل سيسمحون له بالوصول إلى دمشق فعلاً؟ لا. بالتأكيد لا. العالم يهمه أن يشرب السوريون الخمور، ولا يعتني بصبغ بردى باللون الأحمر، ولا يعنيه ذبح الأطفال واغتصاب النساء. يقفز ذلك الجدل في ذهن عمار، ودون أن ينتبه يرفع صوته “الله لا يوفقهم، يا رب خلصنا منو ومن اللي معو”.
يدخل عمار في فراشه إذ يشعر مرة بالبرد وأخرى بالحرارة، وتعود إلى ذاكرته عشرات الصور والقصص، لماذا يكسر عناصر الأسد أعناق السجناء، لماذا يتجمعون كالكلاب المرقطة على شخص واحد، يضربونه على رأسه ويدقون عنقه، ويسملون عينيه. لماذا قتلوا حمزة الخطيب بخمس عشرة رصاصة، ربما لأن عمره كان خمس عشرة سنة.”وحوش، بهائم”. يتذكر عمار صور الفتيات القاصرات اللواتي اغتصبن أمام ذويهم، ولا ينس أبداً كيف أن المخابرات دخلت بيته فعرّت أخته وسحبتها من شعرها أمام الناس لأكثر من مئتي متر، ولما غضب أخوها بفطرته أطلقوا عليه النار.
تذكر كيف قتل خمسة عناصر يتقدمهم ضابط إيراني أربعةَ أبناء لامرأة واحدة بحضورها، بالأحرى كيف قطعوا رؤوسهم بالساطور وهم يمرحون ويقهقهون.
سالت دموع عمار مرات عديدة في هذه الليلة شديدة البرودة. كان كل شيء يذكره بآلام سورية، البرد يذكره بالمهجرين في الخيم، وحركات أطفاله تذكر بالبحر الذي ابتلع عشرات الأطفال السوريين، حتى عندما سمع مواء القط في الخارج، تذكر كيف كان المجرمون الإيرانيون وعناصر حزب الله، يحرقون القطط والكلاب وهي حية ويطلقون النار على الدجاج والخيول والأغنام.
انتفض جسد عمار مرة، وانقطعت ذكرياته، وهو يسمع إشارة هاتفه بأنه تلقى رسالة جديدة، رسالة سامي” لا تنم. الثوار في دمشق، إياك أن تنم”.
“بالتأكيد. كيف لي أن أنام يا رجل؟ معك. أنا معك”.
وفي الساعة الرابعة وتسع عشرة دقيقة صباحاً أعلنت إحدى الشاشات الفرنسية، كما كتب سامي على حالته أن بشار الأسد قد فرّ خارج سورية، وأن الثوار في طريقهم إلى القصر الجمهوري.
كاد عمار يفقد صوابه، بدأ ينتقل من محطة إلى أخرى، والكل يعيد الجملة نفسها. صرخ بأعلى صوته “سقط الطاغية. سقط المجرم” ذهب يصرح في أذني زوجته وأطفاله النيام “ولك قوموا الكلب ابن الكلب سقط، تحررت سوريا يا عالم يا ناس..سقط بشار”.
استيقظ الجميع، ولا أحد يعرف ماذا يفعل، ولم يفهم أحد مشاعر الآخر. ولم ينتبه عمار إطلاقاً إلى صوت زوجته وهو يهم بالخروج من المنزل كالمجنون، كانت تقول له شيئاً عن ملابسه أو عن البرد، لكنه لم يكن يشعر بجسده أصلاً.
انطلق في الشوارع لا يراها، ولا يعرف جهتها، يقف أمام العمارات العالية ويصرخ بأعلى صوته ” سقط المجرم .. أيها الناس… كيف تنامون سقط الطاغية”. استيقظ فعلاً بعض الناس بسبب صوته الهادر، ورد عليه كثير من العرب مبارك مبارك، العاقبة عندنا، ألف مبارك يا رجل. وسمع أيضا امرأة تزغرد من نافذة غرفتها، لا يعلم إن كانت سورية أم لا. استمر عمار في ” الهرطقة ” مبللاً وجهه بدموع حارة سخية. وبعد أقل من عشربن دقيقة، سمع صوت سيارة الشرطة، لكن لم يُعر الأمر اهتماماً حتى توقفت جانبه، وأدخلوه في السيارة، ونقلوه إلى المركز الرئيسي في بوزنصة، وهناك استقبلته ضابط لطيفة، وقبل حتى أن تسأله عن اسمه، وصل أربعة عناصر ومعهم شخص جديد، ويا للمفاجأة، فقد كان ذلك عزمي من دمشق صديق عمار، ولكنه يسكن في مدينة مجاورة. سأله عمار ماذا تفعل هنا، فأجابه: جئت إلى هنا متوقعاً سقوط المجرم، تعرف لا يوجد في مدينتي سوريون، أردت أن أحتفل معكم، ولما صرخت في الطرقات حملوني إلى هنا.
طلبت الشرطية من الاثنين وبلغة فرنسية بسيطة، التوقف عن الكلام ، على افتراض أنهما حديثا عهد بلغة البلاد، ثم أبدت استغرابها منهما كيف يزعجان النيام دون تقدير، للدرجة التي يستقبل فيها مركز الشرطة أربع شكايات حول رجلين يثيرا الصخب في الشوارع العامة.
وبلغة فرنسية عالية رد عمار: أنا سوري يا سيدة، ورفع صوته عالياً سوري وقد سقط المجرم، أنا سوري حر، نفضت العبودية عني بجناحي هذين المكسّرين اللذَينِ لا يحملان ريشاً ولا حتى زغباً.
نظرت إليه الضابط مندهشة: تريد أن تقول سقط بشار الأسد؟؟ نعم سقط الكلب، سقط المجرم سقط الطاغية، لا أعرف أين فرَّ كجرذ مذعور، ربما إلى المجاري، وربما إلى موسكو أو طهران. ردت الشرطية أنت لا تمزح؟ بالطبع لا أمزح، أرجوك لا تثيري شكّي، لقد رأيت الخبر في معظم وسائل الإعلام، هنا، وهذا صاحبي أيضاً عرف ما عرفت.
أسرعت الشرطية وفتحت الشاشة على محطة بي إف إم التي كانت تبث أخبار فرار الأسد.
الشرطية نفسها فرحت، واتصلت ببعض زملائها في المكاتب الأخرى، وجاؤوا جميعا، قالوا لعمار وعزمي: غنيا وارقصا وكلا من طعامنا هذا، لكن هنا في مكتبنا.. ليس في الطريق.
استجاب الرجلان، لكن لم يعد يذكران ماذا غنيا، أو كيف رقصا، لكن عماراً الذي لا يحب صوت أحمد القسيم ولا يسمعه، كان لا يتوقف عن ترديد عبارة ارفع راسك فوق.. أنت سوري حر.
مرت الساعات سريعة في القسم، وعند العاشرة صباحاً أُخذت أقوالهما وأطلق سراحهما.
عندما همّا بالمغادرة، قالت الضابط، هل تعلم أن السوريين سيجتمعون اليوم في وسط المدينة لإعلان فرحهم، كُن هناك، واترك الناس ينامون في الليل، قال لها: الفرح لا يُستْجلَبُ ولا يُؤجَّلُ ولا يُعطى، أ ليس كذلك؟ قالت بلى ولكن إياكما وإزعاج الآخرين. هز الرجلان رأسهما بالموافقة وتحركا، غير أن صوت الشرطية طارد عماراً: سيد عمار لماذا تلبس فردة حذاء واحدة؟ هل أضعت الأخرى ؟. نظر إلى قدمه اليسرى فوجدها بلا حذاء فعلاً، وعليها بعض الكدمات، ثم نظر إلى الشرطية، رفع إشارة النصر، وحياها بابتسامة وانصرف.

 

 

عن صحيفة”نبض الشارع” دمشق

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى