بشار الأسد ضحية! … راشد عيسى
هل فكرتَ مرة إن كان في إمكانك أن تعيش، أو تقضي ساعات يومية، مع شخص يعتقد أن الأرض مسطحة؟ هل فكرت بعواقب ذلك؟
صحيح أن البشرية تعايشت مع هذه الفكرة منذ بدء الخليقة، ولكن مذ غيّرت الأرضُ عقيدتها بَنَتْ كل شيء آخر على هذه المسلّمة الجديدة.
في إمكانك أن تضحك، أو تندهش عن بُعد ممن يقول ذلك على شاشة التلفزيون، لكن أكيد لم يخطر لك ما مفاعيل هذه العقيدة في الحياة اليومية.
أن تنكر كروية الأرض يعني أن تنسف علوم الفيزياء والفلك والجيولوجيا وتكوين الأرض ورحلات الفضاء والطيران ونظام الـ “جي بي أس”.. وبالمناسبة، المُنْكِر نفسه لو فكّر بمفاعيل اعتقاده لما تحرك خطوة خارج البيت.
قرأت أمس تعليقاً حول واقعة مدوية في فرنسا، عندما وَقَعَت امرأةٌ ضحيةَ عصابة إلكترونية أوهمتْها أنها تتحدث مع براد بت، وزيّفت صوراً لنجم هوليوود الشهير، باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي، على أنه في مرض عضال وبحاجة إلى مال للعلاج، فدفعت السيدة آن، وهذا هو اسمها، 830 ألف يورو لبراد بت المزيف، تكاليف عملية جراحية لاستئصال سرطان الكلى.
السيدة الفرنسية الخمسينية لم تخسر تلك الأموال الطائلة وحسب، فقد خسرت عائلتها أيضاً، وتعرضت لموجات تنمّر، وتحولت إلى ترند، استثمر حتى في مجال الإعلان، فهذا نادي تولوز لكرة القدم يبني على قصة الليدي آن فيحاول جذب جمهوره برسالة ساخرة تقول: “مرحبا آن، أخبرنا براد أنه سيكون في الملعب يوم الأربعاء (…) ماذا عنك؟”.
وتليه شبكة نتفليكس في رسالة إعلانية لأفلام متاحة لبراد بت على منصتها: “أربعة أفلام لمشاهدتها مع براد بت (هذا وعد) إنها هدية”.
قال التعليق: “إذا كنتَ مندهشاً من تصديق أي شخص أنه يتحدث مع براد بت، فدعني أذكرك أن بعض الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة، وأن هتلر كان يسارياً، وأن إيلون ماسك يدافع عن حرية التعبير، وأن ساركوزي بريء”.
نعرف جميعاً أن هذه النماذج متوفرة في حياتنا بكثرة، تذكّر نقاشاتك العقيمة مع مَن جادَلكَ ليقنعك بأن الاعتداء التاريخي على برج التجارة العالمي في 11 أيلول/سبتمبر لم يحدث من الأساس، أو أن أمريكا نفسها من ارتكبه كي تبرر غزوها للعالم. تذكّر جدالك مع من استمات في الدفاع عن عدالة نظام فيدل كاسترو في كوبا، معتبراً أن الرضا الشعبي هناك بلغ إلى حدّ أن السجون الكوبية لم تعد تؤوي سوى بضعة عشر سجيناً (بالمناسبة؛ تخطط كوبا أخيراً للإفراج عن 553 سجيناً)، أو انظر هذا المحلل السياسي على شاشة التلفزيون الذي يقول لك إن هجوم “حماس” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول إنما هيأته إسرائيل لنفسها، و”فتش عن المستفيد. ولَوْ!”.
أحاول أن أتخيل كيف سيجيبني صديقٌ يقيم الآن في دمشق، لم يغادرها في الأساس: هنا، حيث لا كهرباء، ولا وسائل اتصالات ولا مواصلات معتبرة، وبالطبع لا معنى لنظام الـ “جي بي أس” في الأحياء والعناوين المدمرة، والإنترنت يأتيك على ظهر حمار متعب متعدد المهام،.. لن يكون هناك أي معنى للهراء بخصوص كروية الأرض، و”جي بي أس”، وبرامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقات التزييف العميق،.. لكن هل شاهدتَ أمس مقابلة رجل الدين المسيحي الفلاني يقول إن بشار الأسد ضحية؟
أركض إلى المقابلة، لأجد “أبانا”، رئيس أساقفة دمشق للسريان الكاثوليك، يوحنا جهاد بطّاح، على عرض الشاشة بابتسامة واسعة كل الوقت، برغم العناوين والأسئلة والمضامين المأساوية، ليجيب عن سؤال المذيع: “أين كنتم حين كان يطحن الناس في السجون؟”، بالقول إنه كان يزور صيدنايا المدينة، ولكن لا يعرف ماذا يجري تحت الأرض، ولا ينكر أنه زار سجن عدرا (وما هذا سوى قشور لظلم سجون الأسد). وأضاف جواباً عن سؤال إن كان يدعو لمحاكمة بشار الأسد: “مو شغلتي.. أول ما طلع ليبني سوريا عملوا منه مجرماً. أنا أعتبره ضحية مؤامرات خارجية، غِلِط، استبد، ما كان يسمع، عنيد،.. لكن لا أطلب محاكمته، فمن منكم بلا خطيئة”.
المطران يوحنا جهاد بطاح يرى أن بشار الكيماوي ضحية ونحن صورناه على أنه مجرم
نعود ونكرر.. يجب أن يكون في سوريا قانون مغلّظ يجرم إنكار الإبادة السورية ويعاقب بشدة كل من يمجد نظام الإبادة
هذه أول خطوة للعدالة
أما هذا الدعي فكلامه مسجل ويجب محاسبته بأثر رجعي بعد إصدار القانون pic.twitter.com/psL2WsHFhC— قتيبة ياسين (@k7ybnd99) January 16, 2025
وكي يتأكد رئيس الأساقفة من أننا سمعنا وفهمنا جيداً كلامه يعيد: “أعتبره ضحية، وأنا مسؤول عن كلامي”.
ورداً على سؤال حول كلمة أخيرة يقولها لبشار الأسد يقول: “الله يسامحك”. عاتباً على أنه فرّ من دون أن يوجه كلمة للسوريين، أو لأمهات الشهداء.
يبدو بطّاح، مثل كثر من السوريين، مشكلتهم الوحيدة مع النظام أنه هرب، غضبُهم عليه لأنه لم يصمد، هرب من دون كلمة تيسّر لهم الحجج اللازمة في نقاشات المستقبل. ليس غضب من اكتشف كل هذه الجرائم.
هنا يتساءل المرء؛ هل كان بطّاح لا يعرف حقاً ما يجري في أقبية نظام الأسدين؟ هنا يمكن العودة إلى نظرية “المفاعيل”، كيف في إمكانك قيادة أساقفة، وشبيبة البلاد، والطائفة، إلى مصائرهم اليومية، بل كيف استطعت أنت نفسك أن تنجو في البلد المفخخ بملايين الألغام، أولها مزروعة في حقول الكلام. هل تريدنا أن نصدق ذلك، أنك لا تعرف! ربما معك حق، فقول لا أعرف، أسهل وأقل كلفة من قول “كنت أعرف، ولم أعترض، لم أنبس ببنت شفة”.
من المعيب أن يكون المرء في موقع كهذا ولا يعرف ما يجري، فهناك المعايشة اليومية للناس الذي يتعرضون لمظالم، ولا يمكن أن لا تكون قد سمعت عنها بالتفصيل، وهناك الصحف وتقارير المنظمات الحقوقية والأممية، وصور قيصر التي دارت أرجاء العالم.
وعلى أي حال، ها أنت تعرف الآن، ومع كل ذلك ترى في بشار الأسد ضحية، يستحق المسامحة،.. وفقط لو أنه توجّه للشعب بكلمة الله يصلحه!
ربما علينا، في سوريا الجديدة أن نتعلم، على الأقل، عار إنكار الإبادة الأسدية، وأنه لا يجوز التخفيف من حجم الاضطهاد الذي وقع على السوريين، وسواهم كذلك، هي أكبر إساءة للضحايا أنفسهم، وللناجين، وذويهم، وللباقين.
إذن، أضف إلى قائمتنا أعلاه؛ هناك من يعتقد أن الأرض مسطحة، وأن هتلر كان يسارياً، وأن إيلون ماسك يدافع عن حرية التعبير، وأن ساركوزي بريء، وأن بشار الأسد مجرد ضحية!
؟
؟
٭كاتب من أسرة “القدس العربي”