
ميليشيات نظام الأسد.. من “التشبيح” إلى “المقاومة الشعبية”
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، شكّلت الميليشيات الموالية لنظام الأسد، والمعروفة بـ”الشبيحة”، ذراعاً قمعياً رئيسياً في مواجهة الحراك الشعبي. انخرطت هذه المجموعات في انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، شملت الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والقتل العشوائي، مما جعلها أداة رئيسية لترسيخ قبضة النظام على البلاد. ومع مرور الوقت، لم تعد هذه الميليشيات مجرد أدوات تنفيذية بيد النظام، بل تحولت إلى كيانات شبه مستقلة تسعى وراء مصالحها الخاصة من خلال أنشطة إجرامية، مثل الابتزاز والنهب، مستغلة الفوضى الأمنية لتحقيق مكاسب ذاتية.
لكن مع تغيّر المشهد السياسي والعسكري في سوريا، خاصة بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، واجه العديد من أفراد هذه الميليشيات واقعاً جديداً ومصيراً مجهولاً. بعد أن تخلّى عنهم النظام الذي خدموه لسنوات، وجدوا أنفسهم في عزلة، دون حماية أو غطاء سياسي، مما دفعهم إلى البحث عن وسائل جديدة للبقاء والتأثير. في هذا السياق، برزت ما يُعرف بـ”المقاومة الشعبية السورية”، في محاولة لإعادة صياغة دورهم وتقديم أنفسهم بصفة جديدة.
أُعلن عن تأسيس “المقاومة الشعبية السورية” في كانون الأول 2024، وأصدرت بيانها الأول في 30 من الشهر نفسه، متعهدةً باستهداف قادة هيئة تحرير الشام، بالإضافة إلى الجنود الإسرائيليين والأميركيين وقوات الناتو، في خطوة تعكس محاولتهم إعادة التموضع في المشهد السوري الجديد.
التشبيح كسلوك للقمع والسيطرة
في السنوات الأولى للثورة، اعتمد النظام السوري بشكل كبير على الشبيحة لقمع المظاهرات السلمية. كانت هذه الميليشيات غير النظامية تُستخدم لتنفيذ عمليات قمع وحشية ضد المدنيين، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والقتل. بالإضافة إلى ذلك، تورطت هذه المجموعات في أعمال نهب وسرقة واسعة النطاق تحت حماية النظام.
- الإنكار المعقول: بما أن هذه الميليشيات كانت غير رسمية، تمكن النظام من إنكار مسؤوليته المباشرة عن الانتهاكات التي ارتكبتها.
- تخفيف الضغط عن الجيش: من خلال استخدام الشبيحة، تمكن النظام من تجنب استخدام الجيش النظامي في عمليات القمع الداخلي، مما قلل من الانتقادات الدولية المحتملة.
تحوّل دور الميليشيات التشبيحية مع مرور الزمن
مع مرور الوقت، شهدت الميليشيات الموالية لنظام الأسد تحولات جذرية في أدوارها ووظائفها. فبعد أن كانت تُستخدم كأدوات قمعية لإسكات المعارضة والحفاظ على سيطرة النظام، بدأت تفقد امتيازاتها التقليدية نتيجة لتغير الظروف السياسية والعسكرية. لم يعد النظام قادراً على تمويل جميع هذه المجموعات، وبدأت بعض الدول الداعمة، مثل إيران وروسيا، في تقليص دعمها للميليشيات التي لم تعد تخدم أهدافها المباشرة.
أدى ذلك إلى انقسامات داخلية، حيث اختارت بعض المجموعات التصرف باستقلالية، والبحث عن مصادر تمويل بديلة من خلال أنشطة غير قانونية مثل التهريب والابتزاز. في الوقت نفسه، سعى النظام إلى تحسين صورته الدولية من خلال التخلي عن بعض هذه الميليشيات، بل واعتقال قادتها في بعض الحالات.
من التشبيح إلى “المقاومة الشعبية”
النشأة والدوافع:
تأسست ما تُسمى “المقاومة الشعبية السورية” في كانون الأول 2024، عقب سقوط نظام بشار الأسد، في محاولة لإعادة تعريف وجودها بعد أن تخلّى عنها النظام الذي كانت جزءاً أساسياً من أدواته القمعية. جاء الإعلان الرسمي عن تشكيلها في 30 كانون الأول 2024، حيث أصدرت بياناً يتوعد باغتيال قادة هيئة تحرير الشام، ومهاجمة الجنود الإسرائيليين، والأميركيين، وقوات الناتو.
تحليل خطاب “المقاومة الشعبية السورية”
مع تراجع الدعم الذي كانت تتمتع به ميليشيات النظام السوري بعد سقوطه، وجدت هذه الجماعات نفسها في مواجهة واقع جديد. لطالما عُرفت هذه المجموعات بـ”الشبيحة”، الذين ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بنظام الأسد وقاموا بدور أساسي في قمع المظاهرات، وارتكاب جرائم التعذيب والقتل بحق المدنيين، وتنفيذ العمليات القمعية العنيفة تحت غطاء السلطة. ومع سقوط النظام وتخليه عن هذه المجموعات، بدأت تظهر محاولاتهم لإعادة تشكيل هويتهم تحت مسمى “المقاومة الشعبية السورية”، في محاولة لتقديم أنفسهم ككيان وطني يدافع عن البلاد في وجه التحديات الخارجية.
في التصريحات الصادرة عن هذه المجموعات، يظهر بوضوح اعتمادها على خطاب جديد يقوم على الوطنية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي. إذ يتم تصوير هذه العمليات، مثل الهجمات في منطقة القنيطرة، على أنها انتصار وطني كبير أجبر “الاحتلال الإسرائيلي” على التراجع، مع تجاهل كامل لدورهم السابق كأدوات قمع ضد السوريين أنفسهم. لكن المتتبع لتاريخ هذه الجماعات يدرك أن هذه التحركات تأتي في سياق إعادة التموضع أكثر من كونها تغييرات حقيقية في الأهداف أو المبادئ.
تناقض في الخطاب
- محو الماضي: النصوص الصادرة عن هذه المجموعات تتجاهل تماماً التاريخ المليء بالجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها خلال سنوات الصراع. فلا ذكر لاعتذار أو محاولة مصالحة مع المجتمع المحلي، بل يتم التركيز على تقديم صورة جديدة، وكأن الماضي قد مُحي تماماً.
- شعارات دعائية مبالغ فيها: تُظهر النصوص استخداماً مكثفاً للغة الدعائية الموجهة، مثل وصفهم بـ”المدافعين عن الأرض” و”الصامدين ضد الصهاينة”، في حين أن الواقع يشير إلى أن هذه العمليات غالباً ما تكون محدودة التأثير وغير استراتيجية، وهدفها الأساسي كسب التعاطف المحلي والدولي.
- محاولة شرعنة وجودهم: من خلال الحديث عن “العدو الإسرائيلي” وتصوير أنفسهم كحراس للوطن، تحاول هذه المجموعات كسب مشروعية جديدة في أعين السوريين، متجاهلةً أن المجتمع يحتفظ بذاكرة حية للانتهاكات التي عانى منها على أيديهم.
تهديد أمني جديد: خلايا نائمة وميليشيات منفلتة
مع رفض هذه المجموعات الاندماج في العملية السياسية أو قبول أي تسوية، أصبحت تشكل تهديداً أمنياً جديداً. فقد نفذت “المقاومة الشعبية السورية” عدة هجمات، أبرزها:
- 6 كانون الثاني 2025: نصب كمين لعناصر الأمن في الحكومة السورية الجديدة في اللاذقية.
- 10 كانون الثاني 2025: مهاجمة عناصر الأمن في الحكومة السورية الجديدة في منطقة تلفيتا بريف دمشق، مما أسفر عن مقتل عدد من عناصر الأمن.
- 13 كانون الثاني 2025: بالتنسيق مع خلايا من حزب الله في ريف حمص الغربي، نفذت عملية في المنطقة أسفرت عن مقتل بعض عناصر الأمن في الحكومة السورية الجديدة.
- 31 كانون الثاني 2025: استهداف قوات إسرائيلية في القنيطرة، مع ادعاء إصابة جنود إسرائيليين، رغم نفي الجانب الإسرائيلي.
تشير هذه العمليات إلى تحوّل هذه المجموعات إلى خلايا نائمة تنفذ هجمات تستهدف زعزعة الاستقرار.
إيران وحزب الله.. الفوضى الأمنية وإعادة توظيف ميليشيات النظام السابق
مع سقوط نظام الأسد، شهد المشهد السوري محاولات من فلول ميليشيات النظام السابقة لإعادة تموضعها عبر تشكيلات جديدة، كان أبرزها “المقاومة الشعبية السورية”.
إيران وإعادة تدوير ميليشيات النظام المنهار
على مدار سنوات النزاع، اعتمدت إيران على تشكيل ميليشيات رديفة للنظام السوري، حيث قامت بإنشاء وتسليح مجموعات مثل لواء فاطميون وزينبيون وميليشيات عراقية أخرى، إضافة إلى تعزيز نفوذها داخل ميليشيات محلية مثل قوات الدفاع الوطني. ومع سقوط الأسد، وجدت إيران نفسها أمام تحدٍّ يتمثل في الحفاظ على نفوذها في سوريا دون الغطاء الرسمي الذي كان يوفره النظام، ما جعلها تلجأ إلى إعادة تدوير بعض الميليشيات التي كانت تدين بالولاء له، سواء عبر تقديم دعم غير مباشر أو تسهيلات أمنية، مما سمح لها بالحفاظ على شبكة من المجموعات المسلحة القادرة على التحرك ضمن بيئة الفوضى الأمنية الجديدة.
حزب الله.. الدور اللوجستي وإعادة هيكلة شبكات التسلح
منذ تدخله المباشر في سوريا عام 2013، عمل حزب الله على بناء شبكة واسعة من الميليشيات الرديفة، خاصة في المناطق الحدودية مع لبنان وريف دمشق. وبعد سقوط النظام، لم يعد الحزب يعتمد فقط على عناصره داخل سوريا، بل بدأ في إعادة تأهيل بعض المجموعات التي خدمته سابقاً كأدوات قمع بيد النظام السوري. في هذا السياق، يُحتمل أن يكون الحزب قد لعب دوراً في تسهيل عمليات “المقاومة الشعبية السورية”، سواء عبر تقديم دعم لوجستي أو توفير قنوات تسليح، خاصة أن هذا التشكيل تبنّى خطاباً يتماشى مع الدعاية الإيرانية بشأن “المقاومة” ضد إسرائيل والقوى الأجنبية.
الاستفادة من الفوضى الأمنية لفرض واقع جديد
لطالما سعت إيران إلى استغلال انهيار الدول لزرع ميليشيات تابعة لها، كما فعلت في العراق واليمن ولبنان. وسوريا ليست استثناءً، فمع انهيار النظام، باتت هناك فرصة لإعادة رسم خارطة السيطرة عبر دعم مجموعات مسلحة تعيد ترتيب المشهد وفقاً لمصالح طهران.
في هذا الإطار، فإن أي تشكيل جديد ينبثق من رحم ميليشيات النظام السابقة، مثل “المقاومة الشعبية السورية”، قد يكون أداةً لتعزيز النفوذ الإيراني، سواء عبر نشر الفوضى الأمنية أو استخدام هذه الجماعات كأدوات ضغط ضد الخصوم الإقليميين.
على الرغم من أن “المقاومة الشعبية السورية” تدّعي أنها كيان جديد يسعى لمقاومة القوى الأجنبية، إلا أن جذورها في ميليشيات النظام السابق وتوقيتها السياسي يطرحان تساؤلات جوهرية حول الجهة المستفيدة من نشاطها. ومع أن غياب دليل قاطع على علاقتها بإيران وحزب الله يجعل من الصعب الجزم بوجود دعم مباشر، إلا أن تاريخ طهران في استغلال الفوضى الأمنية لصالحها، وسجل حزب الله في إعادة توظيف الميليشيات، يجعلان هذا الاحتمال وارداً، خصوصاً في ظل حاجة الطرفين إلى أدوات جديدة للحفاظ على نفوذهما بعد سقوط النظام السوري.
كيف يجب التعامل مع هذه الظاهرة؟
إن التعامل مع هذه الميليشيات يجب أن يكون دقيقاً ومتوازناً، بحيث يتم اجتثاث خطرها دون الانزلاق إلى دوامة انتقامية تؤدي إلى مزيد من الفوضى. الحل الأمثل يتمثل في محاسبة قانونية شاملة، تضمن تقديم هؤلاء الأفراد إلى العدالة، مع توثيق جرائمهم وجمع الأدلة الكافية لمحاكمتهم. وهذا يتطلب تعاوناً بين الجهات الحقوقية والقضائية، إضافةً إلى دعم دولي يضمن عدم إفلات أي مجرم من العقاب.
الدروس المستفادة من تجربة ميليشيات الأسد
تُقدّم تجربة ميليشيات الأسد درساً مهماً حول نشأة وتطور الجماعات المسلحة غير النظامية في سياقات النزاعات الطويلة. فمنذ بداية الثورة السورية، تحوّلت هذه الميليشيات من مجرد أدوات للقمع إلى كيانات مستقلة تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة. ومع تصاعد النزاع، اعتمد النظام السوري بشكل متزايد على تشكيلات مسلحة غير نظامية لتعزيز سيطرته.
من أبرز هذه الميليشيات “الشبيحة”، التي تشكّلت في ثمانينيات القرن الماضي، وتطورت لتصبح قوة مؤثرة خلال الثورة السورية. بالإضافة إلى ذلك، أنشأ النظام “قوات الدفاع الوطني” في عام 2012، والتي ضمّت مجموعات موالية للحكومة وتلقّت دعماً مالياً وعسكرياً منها، مما زاد من تعقيد المشهد العسكري في البلاد.
يثبت التاريخ أن هذه الجماعات لا يمكن الوثوق بها، فهي مستعدة للانتقال من طرف إلى آخر وفقاً لمصالحها، وقادرة على إعادة تشكيل نفسها وتغيير مسمياتها دون أن تتغير طبيعتها الحقيقية. فعلى سبيل المثال، بعد سقوط نظام الأسد، واجهت السلطات الجديدة تحديات كبيرة في التعامل مع فلول هذه الميليشيات، التي حاولت إعادة تنظيم صفوفها وتهديد الاستقرار في بعض المناطق، مما يؤكد الطبيعة المتقلبة لهذه الجماعات.
في الختام، تُظهر تجربة ميليشيات الأسد كيف يمكن للجماعات المسلحة غير النظامية أن تتطور من أدوات قمع إلى كيانات مستقلة تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، مستفيدةً من الفوضى والفراغات الأمنية. هذا التطور يحمل دروساً مهمة حول ديناميكيات القوة والولاء في سياقات النزاعات الطويلة.
إعادة التموضع بعد سقوط النظام
إن تجربة ميليشيات الأسد، من نشأتها كأدوات قمعية في يد النظام إلى تحولها لاحقاً إلى كيانات مستقلة، تقدم نموذجاً معقداً لكيفية تطور الجماعات المسلحة غير النظامية في البيئات النزاعية الطويلة. ومع سقوط النظام، وجدت هذه الجماعات نفسها في مأزق وجودي، حيث فقدت الدعم الرسمي واضطرت إلى البحث عن طرق جديدة للبقاء، سواء عبر إعادة تموضعها ضمن تشكيلات جديدة مثل “المقاومة الشعبية السورية” أو من خلال الانخراط في أنشطة إجرامية تمكّنها من الاستمرار في العمل ضمن المشهد الجديد.
لكن، وبالرغم من تغير أسمائها وشعاراتها، لم يتغير جوهر هذه الجماعات، التي لطالما عملت وفق منطق المصالح لا المبادئ. إن صعود “المقاومة الشعبية السورية” ليس إلا امتداداً لسلوك هذه الميليشيات، التي لطالما عُرفت بالقدرة على التكيّف وإعادة تشكيل نفسها وفقاً لمتطلبات اللحظة.
لذلك، فإن التعامل مع هذه الظاهرة يستوجب اتباع نهج شامل يجمع بين المحاسبة القانونية والتعامل الأمني الحذر. فمن دون آليات واضحة لمحاسبة عناصر هذه الميليشيات على جرائمهم، ستستمر هذه الجماعات في التحول وإيجاد طرق جديدة للبقاء والتأثير. وفي النهاية، تبقى هذه التجربة درساً صارخاً حول مخاطر الاعتماد على ميليشيات غير نظامية في النزاعات، حيث لا يمكن السيطرة عليها بشكل دائم، وهي مستعدة دائماً للانتقال من طرف إلى آخر وفقاً لمصالحها.
تلفزيون سوريا