فجوة بين الداخل والخارج : أزمة ثقة أم اختلاف أدوار؟ … غطفان غنوم

إن الحديث عن الواقع السوري اليوم لا يقتصر على التحليل السياسي أو الاقتصادي فقط، بل يتجاوز ذلك إلى فهم البنية الاجتماعية والنفسية التي تشكّلت نتيجة الحرب الطويلة والشتات الكبير، الذي فرّق السوريين بين الداخل والخارج. هذه الحالة أفرزت ما يمكن وصفه بـ”الفجوة العميقة” بين المواطن السوري في الداخل والمواطن السوري في الخارج، وهي فجوة تنبئ بأزمة ثقة متبادلة، لها أسبابها العميقة ونتائجها الواضحة.

المواطن السوري في الداخل منشغل بهموم يومية ضاغطة، لا تتيح له مساحة كبيرة للانخراط في نقاشات سياسية أو فكرية واسعة. حياته محكومة بمحاولة تأمين شروط الاستمرار: توفير لقمة العيش، البحث عن مصادر الطاقة، ومواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة المتزايدة يومًا بعد يوم.

على النقيض، يجد المواطن السوري في الخارج نفسه في ظروف أكثر استقرارًا، وهو ما يمنحه وقتًا كافيًا للتفكير والتحليل. ينشغل بتقييم الأوضاع في الداخل، مساءلة الأطراف المتعددة، وإلقاء المسؤولية على هذا الطرف أو ذاك، استنادًا إلى أخبار تصله، بعضها صحيح، وبعضها الآخر مشوّه أو مجتزأ.

لكن هذا الاختلاف في الأولويات لا يعني بالضرورة فقدان الارتباط بين الداخل والخارج، بقدر ما يعكس أدوارًا متباينة فرضتها الظروف. ومع ذلك، تحوّلت هذه الأدوار أحيانًا إلى ساحة خلاف وتبادل للاتهامات بين الطرفين، مما أدى إلى تعميق الفجوة النفسية والاجتماعية.

هذه الفجوة في الاهتمامات خلقت أزمة ثقة بين الطرفين؛ فالمواطن في الداخل ينظر أحيانًا بعين الريبة إلى المغترب، ويعتبره بعيدًا عن الواقع الحقيقي، غير مدرك لحجم المعاناة اليومية. بينما يتهم بعض السوريين في الخارج أهل الداخل بأنهم أصبحوا أسرى لحالة من التكيّف مع الواقع أو خاضعين لهيمنة الإعلام الرسمي.

لكن هذه النظرة الثنائية تبقى تبسيطية وخاطئة في كثير من الأحيان؛ فليس كل من في الداخل غارق في معاناة بلا وعي، كما أن ليس كل من في الخارج يعيش في برج عاجي. ومع ذلك، يستمر هذا التصوّر في تعزيز الجفاء، بدل أن يكون حافزًا لبناء حوار حقيقي بين الطرفين.

ربما تكون إحدى الظواهر التي ساهمت في توسيع هذه الهوة، هي سلوك بعض المثقفين الذين يدّعون فهمهم الكامل للمشهد السوري، ويصدرون أحكامهم دون تمحيص كافٍ أو بحث شامل. هذه النخبوية الفكرية جعلت المثقف الثوري في كثير من الأحيان يبدو متعاليًا على الشارع، متحدثًا بلغة أقرب إلى التنظير منها إلى الفهم الواقعي، خصوصًا أنهم يتمتعون بمصداقية لدى فئة مؤثرة وعريضة من روّاد المواقع الاجتماعية.

في غياب المعلومة الدقيقة، بات بعض هؤلاء المثقفين يعتمدون على الأخبار غير المؤكدة، ويؤسسون مواقفهم على “قيل عن قال”، مما زاد من حالة الارتباك والتشويش. هذه الظاهرة تعمّقت نتيجة الانقطاع عن الداخل، وتحوّلت إلى أزمة تعبير عن الواقع لا تتصل دائمًا بما يحدث على الأرض.

في أي أزمة، يلعب الإعلام دورًا حاسمًا في نقل الحقائق وتبديد الشائعات، لكن في الحالة السورية، غياب إعلام حكومي يومي شفاف ومصداقية موثوقة فتح المجال لانتشار الأخبار المغلوطة والشائعات، مما ساهم في خلق تصوّرات خاطئة بين الداخل والخارج.

هذا الغياب جعل السوريين يعتمدون على مصادر متباينة، بعضها سياسي وموجّه، وبعضها الآخر قائم على السردية الفردية، مما زاد من تعقيد فهم المشهد العام.

إذا كان الواقع السوري معقدًا إلى هذه الدرجة، فإن الحل لا يمكن أن يكون بسيطًا. ومع ذلك، قد تكون بعض الخطوات وسيلة لتضييق هذه الفجوة، مثل:

  • بناء منصات إعلامية مستقلة وموثوقة تعمل على نقل الحقائق بموضوعية وشفافية، بعيدًا عن الأجندات السياسية.
  • تعزيز الحوار بين الداخل والخارج على أسس الاحترام المتبادل، والانتباه لتجنب إصدار الأحكام الجاهزة أو التعميمات المطلقة.
  • تشجيع البحث الميداني والعمل التوثيقي لفهم أعمق للواقع، بدل الاعتماد على الأخبار المتداولة أو المصادر غير المؤكدة.
  • كسر حاجز النخبوية الفكرية وخلق مساحة للمثقفين للتواصل المباشر مع الشارع، بعيدًا عن التنظير والتعالي.

إن تضييق الفجوة بين الداخل والخارج يتطلب جهدًا مشتركًا من جميع الأطراف، إدراكًا لحقيقة أن السوريين، رغم اختلاف ظروفهم، يشتركون في مصير واحد، يحتاج إلى تكاتفهم لا إلى تعميق الخلافات بينهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى