بابا عمرو.. حين يصبح مكان الولادة أهم من الاسم … غطفان غنوم

"بابا عمرو: ذاكرة تنزف وألم لا ينتهي"

عندما برز اسم بابا عمرو في خضم الثورة السورية وصار خبرًا أحمرا عاجلًا، كنت هناك، في قلب الحي، أراقب كيف تحوّلت الأيام إلى فصول دامية، وكيف بات واضحًا لنا، نحن سكانه، أن النظام لن يهدأ حتى يدمّر كل بيت، وربما كل شبر في سوريا.
في البداية، كنا نخشى على التفاصيل الصغيرة. على تلك الأشياء التي تبدو تافهة لكنها تحمل ذاكرتنا، أرواحنا، وجذورنا.. تخاف أن تنكسر نافذة بيتك التي لطالما نفخت عليها بخار فمك ورسمت بها بيتًا أو قلبًا، تخشى على شجرة الليمون التي زرعتها والدتك في الحديقة من القطع أو التلف.
أتذكر جيدًا حين قال لي عمي، بعد أن طال القصف: “الشجرة لن تثمر هذا العام.. إنها خائفة!”.
هل تخاف الأشجار؟
نعم، تخاف.. وبالفعل، لم تثمر الشجرة التي طالما منحتنا ثمارها بسخاء، وكأنها اختارت الصمت حدادًا على كل ما فقدناه.
في البداية، تخاف على الأشياء الصغيرة أن تضيع، فتتمسك بألبوم صور، أو كتاب يحمل قيمة معنوية، أو لوحة عزيزة. لكن لاحقًا تبدأ بالتخلي عن كل شيء رويدًا رويدًا، حتى لا يبقى لديك سوى روحك. تغادر المكان مجبرًا تحت وطأة القهر والخوف والقصف، لكنه لا يغادرك. يترك داخلك ندبة بحجم قبر، تزورها كل يوم، تضع حولها ذكرياتك كورود وتسقيها دمعًا.
هذا ما جرى معي في بابا عمرو. تركت كل شيء، وغادرت الحي بعد أن صار البقاء فيه مستحيلًا، إثر قصف متواصل لم يهدأ ليلاً ولا نهارًا من قبل قوات النظام السابق.
وفي إحدى نوبات الغضب، أذكر أن جارتي صرخت: “والله لو كانوا يرمون علينا بطاطا، لمات كل من في الحي!”، لكننا بقينا على قيد الحياة، بالصدفة وحدها، بينما رحل ثلاثة من أبنائها الشباب، تاركين وراءهم أفواهًا جائعة، وأرواحًا مكسورة، وذكريات لا تموت.
كان بيتي في قلب الحي، وكان يطل على ساحة ترابية واسعة، كانت في طفولتي حقلًا ممتدًا ينتهي ببئر عربي قديم.
أتذكر ذلك الحقل، وتلك النباتات التي كانت محرمة علينا، كما كان محرمًا علينا الاقتراب من فوهة البئر المخيفة، التي فتحت فمها كبركان خامد..
كم من كرة ابتلعها ذلك البئر، دون أن يجرؤ أحد على استرجاعها!
أذكر أن أحد الرجال، ذات يوم، ربط نفسه بحبل ونزل داخله ليستعيد شيئًا سقط.. ومنذ ذلك الوقت، اعتبرته بطلًا. كنت أجاهر لأصدقائي بأنه قادر على القفز فوق الفتحة بسهولة، كبطل أولمبي. ذلك الفتى النضر نفسه، الذي رأيته يومًا بطلًا استُشهد بعد سنوات، بعد أن فقد شقيقه قبله.
بابا عمرو ليست حيًّا، بل ذاكرة تنزف، ذاكرة من آلاف القصص التي تفيض بالحزن والبطولة والفقد. كل شخص هناك قصة، كل بيت سردية للحصار والموت، كل عائلة تملك ألبومًا من صور العذاب.
حلمٌ كان أشبه بنبوءة.
لا يزال أصدقائي يذكرون كيف حدّثتهم عن رؤية رأيتها قبل اجتياح الحي وتدميره، بل حتى قبل اندلاع الثورة. كان حلماً مدهشًا، مرعبًا، لا يُنسى.
رأيت شجرة ضخمة، هائلة الحجم، نبتت فجأة في الساحة الترابية. لم تكن تحمل زهورًا عادية، بل فوانيس ضخمة مشتعلة. من شرفة منزلي، صرخت لأخي الأكبر: “انظر! إنها شجرة من الجنة!”. لكن أخي نظر إليها بريبة وقال: “بل شجرة شيطانية.. يجب أن نقطعها!”.
حملنا فأسين، وبدأنا نضرب الساق العريض الملتف، فكان الدم ينفر مع كل ضربة! وبدأت الشجرة تصرخ بأصوات مرعبة، كأنها تعوي، وتمايلت فوانيسها نحونا كأنها تحاول إحراقنا. شعرت بالرعب، لكن أخي صرخ: “يجب أن نكمل، وإلا سنهلك!”.
وحين بدأنا باقتلاع الجذور، رأينا الهول بعينه؛ لم تكن جذورًا، بل جثث متشابكة، عارية، مئات منها، تمتد تحت الأرض كأنها نمت هناك منذ الأزل. امتلأت الساحة بها، وتحول الحقل إلى ساحة حرب.
تلك الرؤية، التي حفظتها كمخرج شغوف بالغرائب، كنت أظنها تصلح لفيلم رعب، لكنها تحققت بعد أشهر، واستحال بابا عمرو إلى حقول مدمرة، مليئة بجثث أبنائها.
الذاكرة مليئة بالمآسي، لكنها تحمل الفرح أيضًا، ولو كان فرحًا خجولًا، متخفيًا، نحيلًا، يختبئ في شقوق الإسمنت التي سورت القلب.
فقدت في الحي الكثير من الأصدقاء؛ منهم من قُتل برصاص قناص، ومنهم من مزقته قذيفة، ومنهم من ابتلعه السجن، وانقطعت أخباره.
نجوت من الموت، لكنني لم أنجُ من الذاكرة!
حين يراني البعض اليوم، يهنئونني، يباركون لي نجاتي، لكنهم لا يعلمون أن نجاتنا ليست سوى حالة زائلة، كصورة على موقع تواصل، تحظى بإعجابات كثيرة، لكنها تختفي وسط الزحام.
عدت مؤخرًا إلى بابا عمرو، مشيت في أزقته، شعرت كأن جلدي قد تجعد بفعل الزمن. لكن الناس بدأوا بالعودة، استقبلني كثيرون منهم، عرفوني رغم السنوات. فرحت بهم، وافتخرت، وفرحوا بي. هؤلاء الذين أنتمي إليهم، المتعبون، المشققة أياديهم، والنابتة ذقونهم، الفقراء، لكنهم أغنياء بالذاكرة، المقهورون الذين لم يُقهروا.
وحين رأيتهم يرقصون في الساحة نفسها، ويغنون للحرية مجددًا، أدركت أن الثمن الكبير الذي دفع، لم يكن بلا جدوى.
في بابا عمرو، الجرح يسلم على الجرح، والجرح ينزف داخل جرح آخر.
يمسح دموعك من يحتاج إلى سيروم ليحافظ على حياته، ويطبطب على كتفك من كفَّن ولده، ويقبل جبينك من قبَّل جبين ابنته قبل دفنها.
في هذا الحي، تزغرد لك من ودّعت أخاها قبل أن يختفي في غياهب المعتقلات.
وأنت هناك، تقف، تحمل اسمًا واحدًا كتبته الأقدار لك على هويتك، ذلك الاسم الذي كان يومًا سببًا في احتمال موتك على حواجز النظام، لكنه اليوم أصبح وسام فخر؛ “مكان الولادة: بابا عمرو”.. أصبح المكان أهم من الاسم.
؟
؟
ultrasyria.ultrasawt.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى