
سوريا على مفترق طرق : التحديات والفرص … مرهف مينو

قبل أن نتناول ما جرى في الساحل السوري، لا بدّ من العودة إلى جذور الأحداث السورية لفهم الصورة كاملة.
فقد كان إسقاط نظام الأسد، الذي جمع أسوأ مظاهر القمع والفساد، بمثابة نقطة تحوّل تاريخية ليس فقط لسوريا، بل لمنطقة الشرق الأوسط بأسرها.
أسقط النظام الذي أودى بحياة ملايين السوريين وهجّر أعدادًا كبيرة منهم، واستبدل الدولة بمؤسسة بوليسية يقوم اقتصادها على تجارة المخدرات، مما أدى إلى تفكك النسيج الاجتماعي وتقسيم الخريطة الجغرافية.
في تلك المرحلة، أصبح النظام تحت النفوذ الإيراني الكلي، حيث استُخدمت سوريا كمعبر لنقل الأسلحة ودعم جماعات مثل “حزب الله” الإرهابي، مما وضع البلاد في قلب الصراع الإقليمي.
مع فرار الأسد ودخول الرئيس السوري أحمد الشرع إلى القصر الرئاسي في دمشق، بدأت صفحة جديدة تلوح في الأفق.
هنا يتجلّى التباين بين الماضي المظلم والمستقبل المأمول؛ فقد جاء الشرع بخطاب وطني معتدل يرتكز على سيادة الدولة ووحدة الشعب، متجاوزين الانقسامات الطائفية، وموجّهين رسالة للتغيير نحو دولة لا تبتزّ مواطنيها، بل تحمي حقوقهم وتعمل على التنمية الشاملة.
بالنسبة لكثير من السوريين والعرب، شكّل هذا التحول فرصة لبناء سوريا جديدة لا تُعرّضها للفوضى والانقسامات التي ميّزت الماضي الاسدي.

ومع ذلك، لا تزال التحديات كثيرة. فبينما تسعى الإدارة السورية إلى تأكيد سيادتها وإعادة النظام إلى البلاد، تواجه محاولات تخريبية من قبل فلول النظام السابق والقوى الخارجية التي تسعى لاستعادة النفوذ المفقود وإشعال الفوضى.
فقد ارتُكبت مؤخرًا جرائم عنيفة في الساحل السوري تهدف إلى زعزعة استقرار الدولة وتشويه صورتها أمام المجتمع الدولي واطهارها كدولة متوحشة.
في هذا السياق، تُستخدم هذه الاعتداءات كذريعة لتوجيه اللوم إلى حكومة الشرع، رغم دعوتها إلى محاسبة المتورطين ومنع تكرار مثل هذه الفظائع.
دوليا، تبرز مواقف متباينة؛ فقد سارت قوى مثل روسيا والولايات المتحدة وفرنسا نحو تحريك مفاوضات في مجلس الأمن الدولي، حيث نوقش اقتراح روسي قد يصل إلى استخدام الأجواء السورية لمنع وقوع مجازر جديدة بحق فئة معينة، و ضرورة حماية الأقليات ؟؟!
في الوقت نفسه، تحاول إسرائيل استغلال الوضع لتعزيز نفوذها في المنطقة عبر سياسة تقسيمية تعتمد على دعم الانقسامات الداخلية في سوريا.
وقد ربطت تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين محاولات التدخل بالسعي إلى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ قائمة على معايير طائفية، مما يشكل تهديدًا استراتيجيًا ليس فقط لسوريا، بل للدول المجاورة مثل لبنان.
من الناحية الإقليمية، تواجه سوريا مفترق طرق حاسمًا؛ فإن استمرار الانقسامات الداخلية وتفكك النسيج الاجتماعي قد يؤديان إلى تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ، وهو سيناريو لا يخدم مصلحة أي من الأطراف ولا يعكس رؤية سوريا الجديدة التي تسعى إلى وحدة وطنية شاملة.
وقد أُشير إلى أن مثل هذا المشروع سيشكل نموذجًا يُحتذى به في دول الجوار، مما قد يؤدي إلى اضطرابات أمنية على نطاق أوسع، ويجعل إسرائيل في موقع استراتيجي تحقق منه مصالحها.
على الرغم من كل هذه التحديات، يبقى مسار التحوّل الوطني في سوريا فرصة لتحقيق إعادة بناء الدولة على أسس جديدة ترتكز على القانون والتنمية والشراكة الوطنية.
فقد نجح الشرع في تجاوز العقبات الأساسية، بما في ذلك إحباط محاولات فلول الأسد للسيطرة على مناطق استراتيجية مثل الساحل، وفتح قنوات تنسيق مع “قسد” و القوى المحلية مثل الدروز.
هذا التقدم يعكس رغبة ملحّة لدى السوريين في بناء دولة تحمي حقوقهم وتحقق الاستقرار، بعيدًا عن سياسات القمع والانتقام التي ميّزت عهد الأسد.
يظهر مشهد سوريا اليوم متقلّبًا؛ إذ يسير النظام الجديد بخطى ثابتة نحو تأهيل الدولة، لكنه لا يزال يواجه محاولات تخريبية داخلية وخارجية تهدف إلى استعادة النظام القديم وإعادة زعزعة الاستقرار.
نجاح سوريا الجديدة سيعتمد على قدرة قيادتها على مواجهة هذه التحديات ببصيرة استراتيجية ورؤية شاملة تجمع كل مكونات الشعب السوري في مسعى مشترك نحو مستقبل آمن ومستقر، يستند إلى منطق الاعتدال والعقلانية في قلب منطقة طالما عانت من الانقسامات والصراعات المستمرة.



