ما يصلح للحرب.. هل يصلح للسلم؟ … راشد عيسى

اعتراضات قليلة، تكاد تكون معدودة، على فيديوهات مطلوبين من عناصر النظام الأسدي المخلوع بعد اعتقالهم ظهروا فيها بوجوه مشوهة بفعل الضرب، أثارت موجة من السخرية والاحتجاج على وسائل التواصل الاجتماعي طالت المعترضين، الذين غالباً ما يوصفون في حالات كهذه بالرخاوة وضعف القلب، وبأنهم أولئك الذين يريدون تحرير البلاد بالشوك والسكاكين.
بدا وكأن المعترضين قد صبّوا الزيت على نار المحتفلين بإلقاء القبض والتنكيل بمجرم نكّل طويلاً من قبل بمعتقلين، وسلّم كثيرين منهم، وابتزّ أهاليهم. فشنّ البعض حملات ردح راحت تدبك على رؤوس المحتجين على ما اعتبروه انتهاكاً لقوانين وشروط العدالة وأصولها، حتى لو كانت بحق مجرم.
الاعتراضات (النادرة على الدوام) طالت أيضاً بعض الإعلاميين الذين أجروا مقابلات مع المعتقلين المطلوبين، أخذوا فيها موقع المحقق، والمقرِّع، وكان لافتاً أن أحدهم راح يكرّر اسم المنطقة التي يتحدّر منها المحبوس، علماً أن لا أحد لديه أيّ شكوك حول منبته.

قد تكون هذه الحالة (المجرم المقبوض عليه أخيراً) عصية على نقاش متوازن إلى حد ما، ذلك أن جرائمه تستفز، تعمي القلب والعقل فعلاً و”تخربط” الميزان، فأي غليل سيشفى، وكم نحتاج مخيلات مبدعة تتفنّن في الاقتصاص من هكذا مجرم، ولو أتاحت لنا حقوقُ الإنسان وشروطُ العدالة لذهبنا إلى شهادةٍ روائيةٍ لأحد معتقلي الثورة السورية في سجون النظام، تحمل اسم “لهذا أخفينا الموتى” (لوائل الزهراوي)، واستعرنا منها فنون الانتقام، لكن العدالة الحقّة لا تسمح، وقد ثار السوريون من أجل العدالة والكرامة وحقوق الإنسان، وبالطبع حقوق المعتقلين، فللأخيرين حقوق من دون سؤال عن فحوى الارتكابات ومستواها، وللإنسان، مطلق إنسان، كرامة، هي أيضاً كرامتك أنت فيما تشاهد تعذيب وإهانة كائن. ثم ما دمنا في عزّ انتصارنا أليس من الأنبل والأجمل أن نقول للمجرمين، والفلول، والمتربّصين: هذه هي العدالة التي ثرنا من أجلها!
لكن دعونا نتحدث عن فيديوهات أخرى، حالات اعتقال وانتهاك لمواطنين عاديين قد تُوضّح المقصود من الاعتراضات. فقد شاعت هنا وهناك فيديوهات تَعرُض بعضَ مرتكبي (والله أعلم) جرائم أو جنح، من قبيل التجديف، أو السرقة، أو “التلطيش” (تحرّش لفظي بالنساء) فكان يجري سوق هؤلاء في الشوارع أو الساحات العامة بأوضاع مذلة، مع ترديد عبارات تتعلق بالجرم، مثل: “أنا كفرت، أنا لطشت بنت”. في واحدة من الحالات كنا أمام فيديو لشابين متهمين بـ “سبّ الذات الإلهية”، وقد جرى أمام الكاميرا جزّ شعورهم، واجلاسهم بوضع جاثيين، مع ترديد كلمات الندم على ما فَعَلا. والانتهاك هنا مضاعَف، إذ تجري العقوبة من دون إجراءات قانونية واضحة، ثم العقوبة العلنية، إلى جانب التشهير بالشابين، وبالإمكان تخيل الأذى الذي يمكن أن يلحق بهما جراء ذلك. لا يجب أن تصبح العدالة نوعاً من الاستعراض، فهي تتطلب إجراءات قانونية سليمة، وهي ليست طقساً للفرجة والانتقام. (تخيّل أن هناك إعلامين بارزين دافعوا عن تلك الإجراءات الأمنية!).
إذاً فإن المسألة أسلوبٌ ونهج، لا يخص فقط ذوي الجرائم القذرة، ما يهدد العدالة بمختلف إجراءاتها وأبسط حقوق الإنسان بالخطر.
دفاعاً عن الإعلاميين الذين يُجرون هذا النوع من المقابلات، والذين ظلّوا، منذ التحرير، محل انتقاد في مرات عديدة، بسبب بعض الخروقات المهنية، جاء من يقول بأن هؤلاء كانوا أبطالاً في كل سنوات الثورة، وأن ليس من حق أحد المزاودة عليهم.

إنهم أبطال بحق، بل إننا نَدين بالفعل لشجاعة الصحافي المواطن الذي ولد وشبّ في عزّ أكثر اللحظات خطورة، ولولاه لما وصلت صورة الضحايا إلى شاشات وصحف العالم. هؤلاء أيقونات، ولولا أنهم ما زالوا على قيد الحياة لوضعنا صورهم إلى جانب الساروت وباسل شحادة وباسل الصفدي.. لكن لا بدّ من التأكيد على أن ما يصلح للحرب والثورة قد لا يتوافق مع متطلبات السلم والدولة، وإلا ما الذي عناه الرئيس السوري أحمد الشرع بمقولته الافتتاحية لعهده “انتهت الثورة، وبدأت الدولة”؟
عندما كان بعض ممثلي الإعلام التقليدي (المغرض) يشكّكون بحيادية ومهنية وموضوعية الصحافي السوري المواطن، كنا نجيب بأن من المعلوم أن هؤلاء ولدوا من حاجةٍ ماسة وقاهرة على الأرض عندما تَقصّدَ النظام “تطفيش” الإعلام الأجنبي، ومن لم يرضخ قُصف بشكل مباشر (ماري كولفن في بابا عمرو مثلاً)، وعندما كان النظام يعمد إلى مطاردة حاملي الكاميرات ومرسلي مقاطع الفيديو والصور إلى القنوات الفضائية.

ولد الصحافي المواطن من ضرورة قصوى عندما أراد المواطن، الضحية، نفسه أن يقول للعالم ماذا يجري حوله، أن يروي مأساته هو، ومأساة أهله. ومن الطبيعي في لحظات الخطر تلك أن أحداً لن يفكر بمخارج الحروف وسلامة اللغة ومواءمة المحتوى لشروط العمل الإعلامي.. لكننا الآن في زمن مختلف، إذ بات على هؤلاء الخضوع لتأهيل مهني، وحقوقي، يليق بصاحب مهنة من جهة، كما يليق بشجاعتهم ومكانتهم.
كان الزعيم البريطاني ونستون تشرشل بطلاً في عيون شعبه، أثره في رسم مستقبل أوروبا والعالم لا ينكر ولا ينسى، دوره في الانتصار الكبير على الفاشية لا يخفى، ومع ذلك فقد جاءت خسارته مدوية في أول انتخابات جرت إثر انتهاء الحرب. عندما وضع “حزب العمال” شعاراً يقول “شجّعوا تشرشل، وصوّتوا لحزب العمال”، و”احتَفِلوا بتشرشل، احتفلوا بالنصر وبالخلاص، خلاص هذا البلد، لكن نحن من سيتولى الأمور من الآن فصاعداً”. قيل حينها إن ما يصلح للحرب لن يصلح بالضرورة للسلم والحياة، حيث ستصبح الأولوية للكهرباء والماء وإعادة الإعمار والمتطلبات الأولى.
تجاهل الإجراءات القانونية المتفق عليها في معظم دساتير وقوانين العالم سيؤدي إلى تقويض العدالة التي هي للجميع. كل تأخير ستدفع ثمنه البلاد برمتها، سيدفع ثمنه ناسها، وقد آن لهم أن يستريحوا.

؟

٭ كاتب من أسرة “القدس العربي”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى