فنانون خارج مزامير النظام وتاريخ منسي تحت أنقاض الجهل … عطفان غنوم

تتسابق المواقع الإلكترونية لاصطياد تعليق من هنا أو هناك، لجلب القراءات والمشاهدات، مما يجعلها تركز بشكل مكثف على الفنانين. مؤخراً، لفت انتباهي أن العديد من التعليقات السيئة، التي كانت تستهدفنا بشكل غير مبرر خلال فترة حكم الأسد، والتي اختفت بعد سقوطه، قد بدأت بالظهور مجدداً.

هذا الأمر، في رأيي، يعود إلى صنفين:الأول، يعتقد أن الجرائم الإلكترونية لا يُعاقب عليها؛ والثاني، ذباب إلكتروني مُموَّل يُفعَّل عند الحاجة. وبين هذين الصنفين، نجد أصواتاً شاذة تستغل المنشورات لتصفية حساباتها الشخصية.
لكن ذلك لا ينفي وجود انتقادات جادة، محقة، نافعة، وضرورية، إذ لا يجوز لأي فنان أو مؤثر أن يظن نفسه في منأى عن النقد أو أن الشهرة تجعل منه مواطناً من درجة أعلى.

إلا أن التعليق الذي لفتني أكثر من غيره، وهو لبّ الموضوع، يتمثل في صيغة تتكرر كالإملاءات الأمنية:
“من هذا الفنان؟ لا نعرفه! هل يساوي فرنك؟”
هذه العبارة تختزل الكثير من الظلم، وهي ليست مجرد تعليق عابر، بل استمرار لنهج عمل عليه النظام السابق. مقالتي هذه ليست محاولة للتظلم أو طلب الطبطبة، بل هي تفنيد لسياسات منهجية مورست بحق الفنانين، والتي يجب أن نتنبه لها كي لا تتكرر مع الأجيال القادمة من المبدعين.

“لا نعرفهم”: الجهل الممنهج

شهدت العقود الماضية في ظل النظام الأسدي تأميماً كاملاً للسينما ووضعها تحت رقابة صارمة، مع تقليص الدعم وتقييد الخيارات المتاحة أمام المخرجين الخلّاقين.
على سبيل المثال، المخرج أسامة محمد، الذي مُنع فيلمه العظيم نجوم النهار من العرض في دمشق لعقود طويلة.
في المقابل، تم ذبح المسرح وتقييده، ومنع طرح أي قضايا إشكالية تتناول السلطة العليا أو رأس النظام، فضلاً عن تكريس نظرة نمطية عنه في أذهان العامة، بأنه إما مكان للتهريج أو للتمثيل الجامد الخطابي، ما جعله بعيداً عن قلوب الناس.
يترافق كل ذلك مع انحطاط الصحافة وتسخير صفحات الجرائد الرسمية لتبجيل سياسات الحزب القائد للدولة والمجتمع.
لا ينجو من هذا القفص سوى القلة القليلة من الصحفيين الذين يُعترف لهم بالنزاهة.

أما الدراما التلفزيونية، فحظيت بدعم واسع لأسباب باتت واضحة للجميع، إذ تم تسخيرها للترويج للنظام، مع وجود استثناءات ارتقت فنياً لكنها بقيت تحت سقف محدد يمنع انتقاد هرم السلطة.

الشهرة المُسخّرة للولاء

في سوريا، كانت الشهرة تُمنح للفنانين الطبالين، وفقاً لقاعدة واحدة: كن أجيراً لدينا، وستصبح مشهوراً.
ومع ذلك، لا يمكننا إنكار وجود فنانين حقيقيين، التزموا الصمت، ورفضوا إهانة أنفسهم، وظلوا نموذجاً للفنان الحقيقي طوال حياتهم المهنية.

لكن من يعرف فناني الحسكة المسرحيين؟
من يعرف تشكيليي حمص؟ أو موسيقيي المحافظات؟
من يعرف أن فناناً خارقاً بقيمة لؤي كيالي مات محترقاً في سريره بحلب؟
من يعرف سحر المقلي؟
ولماذا ارتبطت الشهرة فقط بالدراما التلفزيونية؟

هذه الأسئلة تضعنا أمام حقيقة مؤلمة، وهي أن النظام تبنّى سياسة ممنهجة لتهميش المواهب الحقيقية وصناعة أبواق دعائية بدلاً منها.
بعد ذلك، تُترك المواهب الحقيقية لمواجهة مصير النسيان، إذ يصبح الفنان المنبوذ في محافظته ضحية لسياسات الإقصاء.

الجهل كمعيار

حين يتفاخر بعض المعلقين بجهلهم، معتمدين على الشهرة الفاقعة كمعيار لتقييم الفنانين، فإننا نكون أمام ظاهرة خطيرة.
هذا القصور في التقييم المعرفي لا يقتصر على الأفراد، بل هو نتيجة تراكم سياسات نظامية كرّست مفاهيم مغلوطة عن الفن والثقافة.

علينا أن نعيد النظر في هذه المنهجية السائدة، وأن ندرك أن الشهرة ليست هدفاً بحد ذاتها، بل نتيجة للعمل والإبداع الحقيقي.

شكراً لكم أيها الشبيحة لأنكم تعترفون بأنكم لا تعرفوننا!
شكراً لنزاهتكم التي ترتكبونها بسوء نية حيث تقدموننا كضحايا وشواهد مجهولة، تعرّي عنصريتكم ودناءة مشغليكم.
وشكراً للقدر الذي لم يجعلنا جزءاً من وعيكم الجمعي المزيف والمضلل والذي يستحق الشفقة.
وشكراً لادعاءاتكم المستمرة بأننا كنا لنصمت لو كنا مكان فنانيكم الأبواق، لأن التاريخ يشهد والذاكرة تشهد، لأن ادعاءاتكم هذه تبرهن للجاهل على مدى فداحة الضريبة التي دفعها من لم يتمكن من النجاة.

لدينا الكثير لنناقشه بشأن أسباب انحدار السينما والمسرح والثقافة في بلادنا، والكثير لنفعله لتغيير أسلوب نقاشاتنا وتقبل بعضنا البعض رغم العيوب والتقصير.
كما نحتاج إلى معيار مهم نلتزم به جميعاً: الرحمة.

بدلاً من أن نخشى النقد ونرهبه، علينا أن نُطوّر ثقافة تقبل الآراء المختلفة، بعيداً عن لغة التصيّد أو التخوين.
هذا الأمر مسؤولية جماعية تقع على عاتقنا جميعاً.

؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى