
الثورة ليست مسرحًا للمزاودة … أين كنتم حين احترقنا؟ … مرهف مينو

في لحظات مفصلية من عمر الثورات، تظهر وجوه وتختفي أخرى. بعضها حقيقي، من لحم الثورة ودمها، وبعضها يُعاد تدويره من خلف الشاشات ليبدو كما لو كان في مقدمة الصفوف.
ومع كل إنجاز، أو حتى كل خسارة، يعود السؤال الذي يؤرق الكثيرين من أبناء الثورة الصادقين: أين كنتم حين احترقنا؟
هذا السؤال ليس مجرد ترف شعوري، بل هو وجع جمعي، ناتج عن سنوات من الخذلان والانكشاف. في زمن القصف والحصار والجوع، كان الصمت يخيم على كثيرين ممن يُنصّبون أنفسهم اليوم “متحدثين باسم الثورة”.
لم نرَ لهم موقفًا، لم نقرأ لهم كلمة، لم نشهد لهم مشاركة في الخطر أو صبرًا على الوجع.
ثم، فجأة، ومع أول نصرٍ ميداني أو تغير في المعادلة، يطلّون علينا ببدلاتهم النظيفة وكلماتهم المنمقة، يتحدثون عن الثورة وكأنها وُلدت على أيديهم.
الوجع أعمق من مجرد “عودة متأخرة”. نحن لسنا ضد من غاب لسبب إنساني، أو لضعف مفهوم. لسنا قساة في الحكم على من اختار النجاة، أو من فُرضت عليه ظروف أقسى من أن تُحتمل.
لكن ما يُوجع فعلًا، هو تحوّل بعض الغائبين إلى “أوصياء” فجائيين، يقفون على منصات الإنترنت ويوزعون تقييماتهم على من ضحّى، وكأنهم أرباب النضال.
نحن نتحدث عن الانتهازيين، عن من عادوا حين أصبحت الثورة “موجة قابلة للركوب”، أو حين فتحت لهم أبواب التربّح السياسي أو الإعلامي أو الشخصي.
عن من لم يرفعوا يومًا علمًا، ولم يشاركوا منشورًا، واليوم يهاجمون الآخرين لأنهم – حسب زعمهم – لم يكونوا “ثوريين بما فيه الكفاية”.
عن من جلسوا في دفء المنفى أو راحة الفنادق، وراحوا يوزّعون الشتائم على المقاتلين الحقيقيين، على من صبروا وذرفوا دمًا ودموعًا في الميدان.
الظاهرة مؤلمة. ووسائل التواصل الاجتماعي، بدل أن تكون مساحة توثيق وتفاعل، تحولت عند البعض إلى خشبة مسرح يعتلونها لتمثيل بطولة لم يخوضوها.
في حين أن الواقع هناك – في الداخل، في التراب، في السجون، في البيوت المهدّمة – ما زال يفرز الصادق من المدعي، ويعرف جيدًا من كان حاضرًا، ومن ظهر فقط عندما أضاءت الكاميرات.
ومع ذلك، لا ينبغي أن نتحوّل إلى جلادين.
الثورة ليست ناديًا مغلقًا، ولا حكرًا على من بدأها فقط.
نعم، من حقنا أن نحاسب المزاودين، لكن ليس من حقنا أن نغلق الباب في وجه من عاد بإخلاص، ولو بعد حين.
فمن جاء اليوم ليشارك حقًا، ليبني، ليعترف بأخطائه، فمكانه بيننا.
أما من جاء ليبيع سردية من ورق، فسيكشفه التراب، وسيسقط أمام أول اختبار ميداني حقيقي.
الثورة، في النهاية، ليست ترندًا على “فيسبوك” أو “تيك توك”.
الثورة قرار، موقف، فعل مستمر في وجه الطغيان، سواء بالكلمة أو بالبندقية أو بالصبر.
وسوريا، في هذه اللحظة الحرجة، لا تحتاج لنجوم شاشات، بل لأناس يعرفون طريقهم إلى الجرح، ويملكون شجاعة تضميده… بصمت.
فمن أراد أن يكون جزءًا من الحكاية، فليبدأ بالفعل، لا بالصورة.
وإلّا، فليبقَ بعيدًا عن الضوء، لأن الثورة ما زالت تعرف أبناءها، وتعرف الغرباء.



