الإسلام السياسي في فرنسا : بين العلمانية والأمن والانقسام الاجتماعي

بقلم غزاله وزيري – بروكسل

تقف فرنسا عند مفترق طرق. فقد تحوّل النقاش المستمر منذ عقود حول الإسلام السياسي إلى قضية اجتماعية وسياسية مركزية، تغذّيها المخاوف الأمنية، وتحديات الاندماج، والدفاع عن القيم الجمهورية القائمة على مبدأ العَلمانيّة (laïcité). ومع وجود واحدة من أكبر الجاليات المسلمة في أوروبا، وتاريخ متنوع من الهجرة، ومبدأ صارم للعلمانية منصوص عليه في القانون، تجد فرنسا نفسها في توتر دائم بين حرية المعتقد وسيطرة الدولة.

كان الإسلام جزءًا لا يتجزأ من المجتمع الفرنسي منذ نهاية الحقبة الاستعمارية، ولا سيما عبر الهجرة من شمال إفريقيا (الجزائر، المغرب، تونس). ويُقدَّر عدد المسلمين بنحو 5 إلى 6 ملايين شخص، أي ما يعادل تقريبًا 8 إلى 10 في المئة من مجموع السكان. ويعيش جزء كبير منهم في المراكز الحضرية وضواحي المدن الفقيرة (banlieues)، التي غالبًا ما تُعد بؤرًا للتوترات الاجتماعية.

وعلى عكس الدول ذات المرجعية الإسلامية، تتمسّك فرنسا بفصل صارم بين الدين والدولة، بموجب قانون العلمانية لعام 1905. فالممارسة الدينية محصورة في المجال الخاص أو أماكن العبادة المخصصة لذلك، فيما يتعيّن على المؤسسات العامة الحفاظ على حياد كامل.

منذ ثمانينيات القرن الماضي، برزت منظمات إسلامية ترى نفسها ليس فقط جماعات دينية بل أيضًا فاعلين سياسيين. ويُقصد بمصطلح الإسلام السياسي هنا الحركات الإسلامية التي تمزج بين الدين والسياسة وغالبًا ما تضع نفسها في مواجهة الدولة العلمانية.

وقد ردّت الحكومة الفرنسية بزيادة الرقابة والتنظيم. فالهجمات الإرهابية التي نفذتها جماعات إسلامية متطرفة—مثل اعتداءات باريس (2015)، ونيس (2016)، ومقتل المدرّس صامويل باتي (2020)—دفعت إلى اتخاذ إجراءات سياسية حازمة.

في عام 2021، صادق البرلمان الفرنسي على قانون مكافحة الانفصالية الإسلامية (المعروف رسميًا بـ “قانون تعزيز المبادئ الجمهورية”). ويتيح القانون، ضمن تدابير أخرى:

  • إغلاق المساجد والجمعيات التي تُعتبر متطرفة.
  • مراقبة التمويل الأجنبي للمنظمات الإسلامية (مثل قطر، تركيا، السعودية).
  • إلزام الأئمة بالتدريب داخل فرنسا.
  • فرض قيود على التعليم المنزلي وبعض الممارسات الثقافية أو الدينية.

الهدف واضح: الحد من التأثيرات الدينية-السياسية التي يُنظر إليها كتهديد للجمهورية.

أحد العناصر المحورية في السياسة الجديدة هو حظر استقدام الأئمة من الخارج. إذ تطالب الحكومة بأن يتلقى جميع الأئمة تدريبهم داخل فرنسا وأن تُموَّل رواتبهم محليًا. ويهدف ذلك إلى منع الأئمة الموفدين من دول مثل تركيا أو السعودية أو قطر من الترويج لأجندات سياسية أو لتفسيرات محافظة، بل متشددة.

دخل هذا الحظر حيّز التنفيذ منذ عام 2024. وحتى الآن، اعتمدت العديد من المساجد على أئمة مستقدمين من الخارج، وغالبًا من أنظمة سلطوية تستخدم المؤسسات الدينية في العالم لتعزيز مصالحها. غير أنّ هذا الإصلاح يواجه مقاومة من داخل الأوساط المسلمة التي تراه مساسًا بحرية المعتقد.

في أكتوبر 2020، قُتل المدرّس صامويل باتي قرب باريس بعدما عرض رسومًا كاريكاتيرية للنبي محمد في حصة دراسية. وأثار الحادث جدلًا وطنيًا حول حرية التعبير، والمناهج التعليمية، والتعامل مع التهديدات الإسلامية.

وردّت الحكومة بتكثيف جهودها ضد الشبكات الإسلامية. فتم إغلاق العديد من المساجد، وحظر جمعيات، واعتقال مئات المشتبه في تطرفهم. وكان قانون 2021 نتيجة مباشرة لهذه الأحداث، إذ يهدف إلى منع تكرارها.

ومن القضايا المثيرة للجدل بشكل خاص مسألة النفوذ المزعوم لجماعة الإخوان المسلمين في فرنسا. فقد حذّر تقرير حكومي صدر في مايو 2025 من “تأثير خفي” للجماعة، التي تحاول عبر جمعيات ومدارس ومساجد تقويض المجتمع الفرنسي وقيم الجمهورية.

لا تُصنّف فرنسا جماعة الإخوان كمنظمة إرهابية رسميًا، لكن التقرير يراها محركًا أيديولوجيًا لتيارات إسلامية مختلفة تروّج لـ “الانفصالية السياسية”. وتُعتبر منظمة مسلمو فرنسا (Musulmans de France) ممثلاً محتملًا للجماعة في البلاد، رغم نفيها القاطع لذلك.

وقد شدّد الرئيس إيمانويل ماكرون على ضرورة التحرك بحزم ضد هذه التهديدات للحفاظ على وحدة الجمهورية. غير أنّ منتقدين يحذّرون من أن سياسات الإقصاء والرقابة قد تؤدي إلى وصم المسلمين ككل، وتجعل الاندماج أكثر صعوبة.

ويستغلّ اليمين الشعبوي واليميني المتطرف مرارًا هذا النقاش. فقد تصاعدت الدعوات إلى حظر كامل للحجاب في المدارس أو المؤسسات العامة. فعلى سبيل المثال، اقترح وزير الداخلية برونو ريتايو عام 2025 منع ارتداء الحجاب في الفعاليات المدرسية لمنع “مجتمعات إسلامية موازية”.

كما قدّم حزب ماكرون (LREM) في العام نفسه مشروع قانون يمنع الفتيات تحت 15 عامًا من ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، بذريعة حماية الطفولة والمساواة بين الجنسين.

وأثارت هذه المبادرات انتقادات شديدة من منظمات إسلامية وجماعات حقوقية، اعتبرتها استغلالًا سياسيًا يعمّق الانقسام الاجتماعي. وفي المقابل، تُظهر استطلاعات الرأي تشككًا شعبيًا واسعًا تجاه الإسلام السياسي، ودعمًا قويًا لمبادئ العلمانية.

ورغم أنّ العقيدة الرسمية للدولة الفرنسية تقوم على الفصل الصارم بين الدين والسياسة، تسعى بعض المنظمات والأحزاب الإسلامية إلى تحقيق حضور سياسي. فحزب اتحاد الديمقراطيين المسلمين الفرنسيين (UDMF)، مثلًا، يُعد حزبًا محافظًا معتدلًا يدعو إلى الاندماج والمشاركة الديمقراطية، لكنه ما يزال هامشيًا سياسيًا.

وعلى المستوى المحلي، يشارك ممثلون مسلمون بشكل متزايد في السياسة البلدية، لكن الانقسام الداخلي وغياب حزب مسلم قوي على المستوى الوطني يحدّ من التأثير.

وتحذّر أجهزة الاستخبارات الفرنسية بانتظام من شبكات إسلامية تحاول الترويج لـ “الانفصالية الإسلامية”—وهو مصطلح يشير إلى الانسحاب من القيم المشتركة وعزل المجتمعات المسلمة.

وتُعتبر بعض الأحياء الحضرية بؤرًا يسعى فيها متطرفون إلى تجنيد الشباب والمهاجرين. وتقوم الشرطة وأجهزة الاستخبارات بعمليات واسعة، لكن التوازن بين الحاجة إلى الأمن وحماية الحريات المدنية يبقى موضع جدل.

وتواجه فرنسا تحديًا يتمثل في كبح الإسلام السياسي كخطر محتمل على النظام الجمهوري دون وصم كامل للجالية المسلمة. فالتقليد العلماني الصارم يتعرض لاختبار في وقت يزداد فيه انخراط الجماعات الدينية في العمل السياسي.

ترسم القوانين الحكومية والإجراءات الأمنية خطًا واضحًا: حماية الجمهورية من التطرف الديني والتدخل السياسي. لكنّها تخاطر أيضًا بزيادة الانقسام المجتمعي وتغذية مشاعر الاستياء.

وفي مجتمع يتسم بتعددية متزايدة، يبقى السؤال قائمًا: هل تستطيع فرنسا أن ترعى شكلًا من الإسلام يتوافق مع القيم الديمقراطية والعلمانية؟ وهل المجتمع مستعد للسير في طريق التعايش الشامل؟

؟

؟

جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى