
في زمن الخداع: أن تقول الحقيقة فهذا فعل ثوري … مرهف مينو
في عصر تتعدد الأصوات حتى يختنق الصدق، لم يعد البحث عن الحقيقة مجرد فضولٍ معرفي أو ترفٍ فكري.
لقد تحول، وبشكل جذري، إلى صراع وجودي وضرورة بقاء. نعيش اليوم في ما يطلق عليه عصر “ما بعد الحقيقة”؛ تلك الحالة الضبابية التي أفرزتها آليات الإعلام الجديد، حيث تبدو كل رواية ممكنة، وكل كذبة قابلة للتصديق، ما دامت تلامس انحيازاتنا المسبقة وتدغدغ عواطفنا.
لم يأتِ هذا الواقع من فراغ. إنه نتاج بنية تحتية رقمية مصممة ببراعة لا لخدمة الحقيقة، بل لخدمة ” الانتباه”. فخوارزميات منصات التواصل الاجتماعي لا تكترث بصحة المعلومة بقدر ما تكترث بقدرتها على إبقائنا ملتصقين بالشاشات.
وهي تفعل ذلك عبر حبسنا داخل “فقاعات ” و”غرف صدى”، نعتقد فيها أن أصواتنا هي الصدى الوحيد في العالم، وأن قناعاتنا هي الإجماع المطلق.
في ظل هذا المشهد، تآكلت الثقة بالمصادر التقليدية للمعرفة، من إعلام ومؤسسات أكاديمية، ليحل محلها فراغ ملأه “مؤثرون” و”صناع محتوى” لا يملكون بالضرورة أي مؤهلات سوى قدرتهم على حشد المتابعين. ومع تطور تقنيات التزييف العميق، أصبحنا على حافة عالم لا يمكننا فيه الوثوق حتى بأعيننا وآذاننا.
هنا، وفي قلب هذا السياق المقلق، يكتسب دور المواطن النقدي والمثقف بعدًا جديدًا. لم يعد دوره يقتصر على التحليل والتنظير من برجه العاجي، بل أصبح فعلاً من أفعال المقاومة اليومية. إن مجرد الإصرار على ذكر الوقائع المجردة، وفضح التزييف، والتمسك بالمنطق في وجه بحر من الشعارات العاطفية، هو بحد ذاته عملٌ ثوري.
إنه فعل ثوري لأنه يتحدى بشكل مباشر آليات السيطرة التي تسعى لفرض نسخة واحدة مشوهة من الواقع تخدم مصالحها. إنه مقاومة ضد التسطيح الفكري الذي يحول القضايا المعقدة إلى صراع ثنائي بسيط بين “معنا” و”ضدنا”.
مقاومة ضد الاستغلال العاطفي الذي يستخدم الغضب والخوف كوقود لتمرير الأجندات. إنه مقاومة ضد تآكل الذاكرة الجماعية عبر إعادة كتابة التاريخ وتشويهه.
لقد اختصر الكاتب البريطاني جورج أورويل هذه الفكرة بعبقرية حين قال: “في زمن الخداع الشامل، يصبح قول الحقيقة عملًا ثوريًا” هذه المقولة ليست مجرد شعار أدبي، بل هي تشخيص مرعب لحالتنا الراهنة.
هذه الثورة لا تتطلب بالضرورة حمل السلاح أو النزول إلى الشوارع. إنها ثورة هادئة تُمارس في كل مرة نتوقف فيها لنتساءل عن مصدر معلومة قبل مشاركتها. في كل مرة نتحقق فيها من حقيقة خبر ما. في كل مرة نجرؤ فيها على قول ما نعتقد أنه الصواب، حتى لو كان رأيًا لا يحظى بشعبية داخل دائرتنا الاجتماعية. وفي كل مرة ندعم فيها الصحافة الجادة التي لا تزال تكافح من أجل تقديم تحقيقات معمقة في عالم مهووس بالنقرات والإثارة.
إن التمسك بالحقيقة اليوم ليس خيارًا أخلاقيًا فحسب، بل هو شرط أساسي لاستعادة أي إمكانية لحوار مجتمعي حقيقي، ولحماية ما تبقى من عقلنا النقدي. فبدون أرضية مشتركة من الحقائق، لن نتمكن أبدًا من حل مشكلاتنا الحقيقية، وسنظل نغرق في صراع الروايات الوهمية بينما ينهار الواقع من حولنا.



