دمشق – رغم مرور عشرة أشهر على التحولات السياسية الكبرى في سوريا، ورفع العقوبات الدولية، وبدء عودة الاستثمارات، لا تزال الليرة السورية تتأرجح في سوق الصرف، عاكسةً أزمة اقتصادية عميقة لم تنجح الانفراجات السياسية وحدها في تبديدها. هذا التقرير يرصد أسباب هذا التذبذب ويحلل العوامل التي تعيق استقرار العملة الوطنية.
رحلة الليرة: من الانهيار إلى التأرجح
شهدت الليرة السورية رحلة متقلبة منذ كانون الأول/ديسمبر 2024. فبعد انهيارها الحاد لتصل إلى 41,000 ليرة للدولار في بعض المناطق، تحسنت بشكل ملحوظ مع تشكيل الحكومة الجديدة لتبلغ حوالي 13,200 ليرة. لكن هذا التحسن كان مدفوعًا بالتفاؤل السياسي أكثر من كونه انعكاسًا لواقع اقتصادي صلب.
وخلال الأشهر التالية، استمرت التقلبات:
- كانون الثاني: تراجع سعر الصرف ليتجاوز 15,000 ليرة، قبل أن يتحسن جزئيًا.
- شباط وآذار: شهدت الليرة تقلبات حادة، حيث تراوح سعر الصرف بين 7,200 و8,000 ليرة للدولار.
- نيسان وأيار: اتسعت الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء، حيث تجاوز الدولار حاجز 8,800 ليرة.
- حزيران وتموز: كسر سعر الصرف حاجز 10,000 ليرة للدولار للمرة الأولى.
- آب وأيلول: استمر الارتفاع ليتجاوز سعر الصرف عتبة 11,100 ليرة للدولار.
لماذا لم تستقر الليرة؟ آراء الخبراء
يجمع الخبراء الاقتصاديون على أن هناك عوامل بنيوية وهيكلية حالت دون استقرار الليرة، أبرزها:
-
غياب القاعدة الإنتاجية: يرى الخبير الاقتصادي الدكتور شادي أحمد أن استقرار العملة يتطلب منظومة اقتصادية متكاملة. فغياب الإنتاج الحقيقي والاعتماد على الاستيراد يخلقان طلبًا دائمًا على الدولار، مما يضعف الليرة.
-
هيمنة السوق السوداء والمضاربات: يؤكد الخبير المصرفي الدكتور إبراهيم نافع قوشجي أن السوق السوداء لا تزال تهيمن على حركة التداول، مدعومة بقوى مالية مضاربة تملك سيولة ضخمة، مما يمنع المصرف المركزي من تطبيق سياساته بفعالية، خاصة مع غياب احتياطي نقدي كافٍ.
-
أزمة الثقة: لم يعد المواطن السوري ينظر إلى الليرة كملاذ آمن للمدخرات، بل اتجه نحو الدولار والذهب والعقارات. هذه الأزمة تعكس فقدان الثقة بالعملة كأداة ادخار، وهو ما يتطلب مؤشرات اقتصادية ملموسة لاستعادته.
-
العوامل غير الاقتصادية: يرى الصناعي عصام تيزيني أن الدولار تحول إلى “سلعة” يتم تداولها بحرية، وأن التأرجح الحالي طبيعي في ظل تعقيدات المشهد السوري. ويؤكد أن العوامل السياسية والعسكرية والأمنية باتت تؤثر على سعر الصرف أكثر من العوامل الاقتصادية التقليدية، وأن استقرار الليرة مرتبط باستقرار الدولة أولًا.
الخلاصة: الاستقرار الحقيقي لا يزال مؤجلاً
يتفق المحللون على أن استقرار سعر صرف الليرة السورية لن يتحقق بقرار إداري، بل هو مسار طويل يتطلب:
- تعزيز الإنتاج المحلي وتوسيع قاعدة الصادرات.
- إصلاح النظام المصرفي وإعادة دمج سوريا في المنظومة المالية الدولية.
- استقطاب استثمارات حقيقية ترفد الاقتصاد بالقطع الأجنبي.
- استعادة الثقة الشعبية بسياسات اقتصادية شفافة وواقعية.
وحتى يتحقق ذلك، ستظل الليرة السورية مرآة تعكس حالة الاقتصاد السوري بكل تعقيداته، ويبقى الاستقرار النقدي الحقيقي الذي يحفظ مدخرات المواطنين هدفًا مؤجلاً.