ما وراء تقرير “le parisien” عن اليهود في فرنسا : الصحافة العاطفية كأداة لتكريس السردية الواحدة
"هذا الجو من الكراهية ليس حياة".. القلق يغير يوميات الشباب اليهودي في فرنسا
باريس (خاص) – مرهف مينو
تحت عنوان برّاق وعاطفي، “هذا الجو من الكراهية ليس حياة”، نشرت صحيفة “le parisien” الفرنسية تقريراً يصور معاناة وخوف الشباب اليهودي في فرنسا. لكن خلف هذه الواجهة الإنسانية، يكشف تحليلنا الخاص عن معالجة إعلامية تفتقر لأبسط معايير المهنية، وتعمل بوضوح على خدمة سردية سياسية أحادية الجانب، متجاهلة عمداً الصورة الكاملة للمشهد الفرنسي المعقد.
الاعتماد على “الضحية النموذجية” لتوجيه الرأي العام
يكشف تقرير الصحيفة عن استخدامه لأسلوب “الضحية النموذجية”، حيث بنى قصته الكاملة على شهادة عائلة واحدة (ديبوراه ورافائيل)، وقام بتعميم معاناتها الشخصية، الحقيقية على الأغلب، لتصبح لسان حال مئات الآلاف من يهود فرنسا. هذا الاختيار ليس بريئاً، فهو يهدف إلى خلق أقصى درجات التعاطف العاطفي لدى القارئ، بينما يتجنب بذكاء تقديم أي بيانات إحصائية أو شهادات متنوعة قد ترسم صورة أكثر تعقيداً وواقعية.
الأخطر من ذلك هو الصمت المطبق الذي يفرضه التقرير على أي صوت آخر. ففي تحقيق يزعم أنه يتناول “مناخاً مجتمعياً”، لا وجود لأي رأي من مسؤول حكومي، أو تحليل من باحث اجتماعي، أو شهادة من الطرف الآخر في المعادلة: الجالية العربية والمسلمة التي تواجه بدورها موجة غير مسبوقة من التنميط والتمييز. هذا التجاهل المتعمد ليس مجرد “إغفال صحفي”، بل هو قرار تحريري يهدف إلى عزل القصة في إطار “الضحية اليهودية” مقابل “الآخر المعادي” غير المحدد، وهو أسلوب يكرس الانقسام ولا يفسره.
تجاهل السياق السياسي لخدمة الهدف
يتعامل التقرير مع تصاعد التوتر كما لو كان ظاهرة غامضة من “الكراهية” غير المبررة. فهو يذكر بشكل عابر “حرب عامين” بدأت في 7 أكتوبر، لكنه يتجنب تماماً ذكر أي سياق يتعلق بحجم المعاناة الإنسانية في غزة، أو طبيعة النقاشات السياسية الحادة التي تدور في فرنسا حول مسؤولية الحكومات الغربية. هذا التجاهل للسياق السياسي يحول غضباً سياسياً مشروعاً، قد يُعبر عنه أحياناً بطرق خاطئة، إلى مجرد “معاداة سامية” مجردة من أي سبب، وهو ما يخدم السردية التي تسعى إلى تجريم أي نقد لسياسات إسرائيل.
إن تقرير “لو باريزيان” ليس تحقيقاً صحفياً، بل هو مادة إعلامية موجهة، مصممة بعناية لتخدم هدفاً سياسياً واضحاً. عبر اللعب على وتر العاطفة، وتغييب الأصوات الأخرى، وبتر السياق السياسي، نجحت الصحيفة في تقديم قصة مؤثرة، لكنها في الحقيقة قصة مضللة تساهم في تسميم النقاش العام بدلاً من إثرائه، وتؤكد مرة أخرى كيف يمكن للإعلام أن يصبح أداة في الصراعات السياسية، بعيداً عن مهمته الأساسية في البحث عن الحقيقة.
“هذا الجو من الكراهية ليس حياة”.. القلق يغير يوميات الشباب اليهودي في فرنسا
بعد عامين من هجوم 7 أكتوبر 2023 وبدء الحرب في غزة، يصف العديد من الشباب في الجالية اليهودية بفرنسا تغيراً جذرياً في حياتهم اليومية، وشعوراً متزايداً بالحاجة إلى إخفاء هويتهم الدينية، وسط تساؤلات مقلقة حول مستقبلهم في البلاد.
صحيفة “لو باريزيان” الفرنسية سلطت الضوء في تقرير لها اليوم، 22 أكتوبر 2025، على هذا الواقع الجديد الذي يعيشه هؤلاء الشباب.
“يهودي قذر!”.. بهذه الكلمات المكتوبة بأحرف سوداء، استيقظت ديبوراه (25 عاماً)، التي تقطن في إحدى ضواحي باريس، لتجدها على بوابة منزلها في أوائل شهر أكتوبر الحالي. تقول الشابة التي ارتجفت يداها من الصدمة: “كيف عرفوا أننا نعيش هنا؟”.
منذ 7 أكتوبر 2023، تاريخ الهجوم الذي شنه “حماس” في جنوب إسرائيل والذي أشعل فتيل حرب استمرت لعامين، تقول ديبوراه إن حزناً عميقاً أصبح يسكنها بشكل يومي. وعلى الرغم من ترحيبها بوقف إطلاق النار الهش الذي تم التوصل إليه في 9 أكتوبر، إلا أنها لا تزال تشعر بالصدمة من “المناخ الخانق” السائد.
يشاركها هذا الشعور شقيقها رافائيل (22 عاماً)، الذي يروي كيف تغيرت حياته اليومية. لم يعد يرتدي قلادة “نجمة داوود” التي كانت تلازمه، وأصبح يتجنب الحديث عن ديانته في الأماكن العامة. يقول: “في السابق، كنت أقول إنني يهودي دون أي مشكلة. اليوم، أفكر مرتين. أشعر أنني مضطر لإخفاء جزء من هويتي لأشعر بالأمان”.
هذا الشعور ليس محصوراً بديبوراه وعائلتها. فالعديد من الشباب اليهود في منطقة باريس أصبحوا يتخذون احتياطات مماثلة. البعض يخفي “الكيباه” (غطاء الرأس الديني) تحت قبعة، والبعض الآخر يتجنب المناطق التي قد يتعرض فيها لمضايقات.
ويصف هؤلاء الشباب جواً من “الكراهية غير المسبوقة” على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الشوارع، وحتى في أماكن العمل أو الدراسة. ويشيرون إلى أن النقاش حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أصبح مشحوناً لدرجة أنه لم يعد هناك مجال للحوار، وأن أي تعبير عن الهوية اليهودية قد يُفسر على أنه دعم تلقائي للحكومة الإسرائيلية، مما يعرضهم لاتهامات وتهديدات.
ويختتم التقرير بالإشارة إلى أن هذا المناخ العدائي دفع الكثير من هؤلاء الشباب إلى التساؤل بجدية عن مستقبلهم في فرنسا، البلد الذي ولدوا وترعرعوا فيه، وباتوا يشعرون فيه بأنهم لم يعودوا موضع ترحيب كما كانوا في السابق.



