الانقلاب الثاني الذي فاجأ السوريين … جميل الشبيب
لم يكن هروب بشار الأسد بعد وصول الثوار إلى دمشق الحدث الوحيد الذي فاجأ السوريين، بل كان التحول الجذري في خطاب قائد العمليات العسكرية أحمد الشرع حدثًا آخر أثار دهشة الجميع. التغير الذي طرأ على مواقف وخطابات هيئة تحرير الشام، وخاصة زعيمها، ترك السوريين في حالة من الذهول أمام هذا التحول الكبير.
قبل شهر فقط، كان عناصر الهيئة في إدلب يفرضون قيودًا صارمة مثل منع النرجيلة، الاختلاط في المدارس، وضوابط أخرى وصفها مراقبون بأنها محاولة لتطبيق أحكام وقوانين ما يسمى بـ”الإمارة الإسلامية”. لكن فجأة، ودون سابق إنذار، انطلقت “معركة ردع العدوان”، وهي المعركة التي قد تُسجل كأحد أكثر الأحداث أهمية ومفصلية في تاريخ سوريا الحديث والثورة السورية.
دخول الثوار إلى حلب: سلام بدل الرصاص
بدأت المعركة بدخول الثوار إلى مدينة حلب، وحرروا أحياءها بأسلوب فريد من نوعه. لم ترفع البنادق، بل وُزعت الورود والسلام على الجميع، في مشهد حمل مزيجًا فريدًا من الأعراق والطوائف: الكرد، والأرمن، والمسيحيين، والشيعة، والسنة. هذا الأسلوب خالف تمامًا التوقعات التي روج لها النظام السوري، الذي كان يركز في دعاياته على عشوائية تعامل الفصائل مع قضية الأقليات، محذرًا الغرب من أن سيطرة الفصائل تشكل تهديدًا وجوديًا لهذه الأقليات.
تغير خطاب الهيئة بعد سقوط النظام
استمرت فصائل الثورة السورية في تقدمها، حتى تمكنت في الثامن من ديسمبر من إسقاط نظام الأسد. تبع هذا الإنجاز تغير جذري في أسلوب هيئة تحرير الشام، حيث أصدرت إدارة العمليات العسكرية عفوًا عامًا عن عناصر النظام الذين لم يرتكبوا جرائم بحق السوريين، مما أعطى إشارة إلى رغبة حقيقية في تجاوز الماضي وبناء مصالحة وطنية.
في الوقت نفسه، لاحظ السوريون تحولاً كبيرًا في خطاب أحمد الشرع، حيث بدأ يوزع التطمينات على جميع مكونات المجتمع السوري. وبعد أقل من ثلاثة أيام من التحرير، انتشرت صور للشرع مع وفود أجنبية، حيث لم تُفرض على النساء المشاركات تغطية رؤوسهن، في خطوة غير مسبوقة بالنسبة للهيئة. وفي مقابلة تلفزيونية حديثة، تجنب الشرع الحديث عن مسائل الحجاب والخمر، تاركًا هذه القضايا للجنةٍ دستورية يُنتظر تشكيلها في المستقبل.
من الثوب العسكري إلى البدلة الرسمية
واحدة من أبرز المشاهد التي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط السورية، ظهور أحمد الشرع ببدلة رسمية وربطة عنق، متخليًا عن الزي العسكري والثياب الفضفاضة التي اشتهر بها في إدلب. هذا التغير لم يكن مجرد تبديل في المظهر، بل عكس توجهًا جديدًا نحو مدنية الدولة وابتعادًا عن سيناريوهات استنساخ التجارب الفاشلة لثورات الربيع العربي.
هذا التحول ظهر جليًا أيضًا في النهج العملي الذي اتبعه الشرع. فعلى سبيل المثال، قام بإقالة عبيدة أرناؤوط من منصبه بعد تصريحاته المثيرة للجدل حول المرأة السورية، مؤكدًا في خطاب لاحق، على دور المرأة المحوري في بناء المجتمع. كما دعا إلى مؤتمر حوار وطني يجمع كل مكونات الشعب السوري لمناقشة مستقبل البلاد، مما عزز الشعور بالاطمئنان داخل الأوساط المحلية والدولية.
الأمل والحذر
رغم هذه التحولات التي لاقت استحسان الكثيرين، لا يزال هناك شريحة من السوريين تشعر بالقلق، متخوفة من أن تكون هذه التغيرات مجرد وسيلة لترسيخ سيطرة الهيئة على مفاصل الدولة وكسب الشرعية الدولية.
ويبقى الهاجس الأهم لدى السوريين: كيف سيكون مستقبل سوريا؟ وعلى أي جبل سترسو سفينة السوريين التي ظلت تائهة منذ الطوفان الأكبر في 2011؟